النسخ في القرآن

د. هاشم غرايبه

لم يأخذ أي موضوع جدلا بين المسلمين، مثلما أخذه موضوع ادعاء النسخ في القرآن، والذي يعني تعطيل بعض أحكامه أو ابدالها، وقد استند من يقولون بذلك الى قوله تعالى: " مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا".
 لا شك أن علام الغيوب يعلم أنه سيأتي من الأمة من سيقولون بالنسخ، بهدف تعطيل بعض الأحكام التي لا تتوافق مع هواهم، فأنزل هذا النص القاطع بدلالة ابتدائه ب (ما) النافية، ومعنى هذه الآية واضح، وينفي أن يكون في القرآن الذي وصلنا أيّة آية ملغاة، فما ألغاه رب العزة أو أنساه لرسوله لم يعد موجودا، بمعني إن كانت محيت آية، أو نسخت بآية أخرى فقد استبدلت قبل أن نعرفها.  
كما أن المؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل في أي حديث بذلك، فلم يطلب من كتبة الوحي مسح آية أملاها عليهم سابقا ولا استبدل آية بأخرى.
طالما أن مصدري معرفتنا بالقرآن الكريم، ينفيان أن هنالك آيات ملغاة أو مستبدلة فيه، فمن أين جاءت قصة النسخ هذه إذا؟.
الموضوع الذي سأتناوله فيما يلي يبين الدوافع لذلك.
من التمعن في حجج من يقولون في النسخ نجدهم في الغالب إما من المغالين المتشددين الذين يجدون في بعض الأحكام القرآنية تساهلا ولينا، ويظنون أن استتباب الأمر للدين لا يتحقق إلا بالحزم والشدة، أو من أصحاب الإربة من الحكام أو الجماعات الإسلامية الذين يريدون أحكاما قاسية بحق مخالفيهم.
قال فريق منهم بنسخ القرآن بالقرآن وانصب اهتمامهم على العلاقة مع المشركين والكفار، وفريق آخر قالوا بنسخ السنة للقرآن، وكان اهتمامهم بالحدود:
1 - المتمعن في الخطاب القرآني يجد أن هنالك قواعد عامة ومبادئ أساسية، وأحكام فرعية خاصة متعلقة بأحداث رافقت نشأة الدعوة، من القواعد العامة إنسانية الدعوة، فهي خاطبت العقل، واستعملت الإقناع والمحاججة، ولو كانت بالإكراه وحد السيف، ما خصص الله 1300 آية لبيان آيات الله الكونية.
القواعد العامة حددت أن التبليغ هو أسلوب نشر الدعوة، ووردت في عدد من الآيات مثل: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"[البقرة:256]، و" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "[النحل:125].
هنالك حالات تاريخية خاصة في بداية الدعوة حدثت مرة واحدة ولن تتكرر، مثل نقض المشركين العهد، وهي الحالة التي نزلت سورة التوبة لمعالجتها، وهي إمهال المشركين أربعة أشهر ثم إعلان الحرب عليهم، الى أن يقطع دابرهم وأذاهم، وربما لم يفهم المسلمون آنذاك أن كل ذلك من تدبير الله لكي يستتب الأمر لدولة الإسلام ويصبح البيت الحرام وجواره دارا أبدية للإسلام، ومنها تنطلق الدعوة لكل البشر.
الذين ودوا استغلال القوة الناشئة للتوسع بالفتوحات، رأوا في آيات سورة التوبة الداعية للقتال أنها تلغي مبادئ الدعوة الأساسية فقالوا بأنها ناسخة لكل آيات الحوار والإقناع.
وهم مخطئون فالحالة الخاصة استثنائية ولا تلغي المبادئ العامة وإن عطلتها مؤقتا، وثبت خطؤهم فيما بعد، إذ دخل في الإسلام بقناعتهم (في آسيا وأفريقيا) أضعاف ما دخلوه بالقتال.
2 – أما القائلون بنسخ السنة للقرآن: فكانوا يستهدفون تعديل الحدود التي نزلت بها نصوص قرآنية واضحة لا سبيل الى تأويلها، فالذين فلم يعجبهم حد الزنا بالجلد الذي ورد في الآية الثانية من سورة النور، بدافع من الطبيعة القبلية العربية تغلب عليها الغيرة الذكورية وكانوا يفضلون رجم الزانية كما يفعل اليهود، لذلك تجد أن بعض الفقهاء تطاول على كلام الله بأن نسخه بحديث الرجم، مع أنه لا يجوز لكلام بشر أن ينسخ كلام الله.
كما أن السلاطين أرادوا تشريعا لقتل مخالفيهم فلم يجدوا في حد الردة الوارد في القرآن ما يجيز قتل المرتد، فاحتجوا بأحاديث، وقالوا بأن الحديث موحى به ويلغي الوحي القرآني، وهذا افتئات خطير، فلا يمكن لمن أنزل الوحي بالقرآن لكل العصور، أن ينسى أو يخطيء في حكم، ثم يستدركه بوحي السنة.       
لقد بحثت في آراء علماء التفسير فوجدت أن هنالك 45 آية قيل أنها منسوخة واختلفوا في ذلك كثيرا، وأما المتفق عليها مما قيل بنسخه فهما آيتين اثنتين فقط، هما:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً"  [المجادلة:12]،و"يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ  قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا  نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا " [المزمل:1-3]
وواضح أنهما متعلقتان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهى حكمهما، لذلك فلم يبق هنالك ما يتفق على نسخه.
نستخلص أن من يقول بالنسخ مخطئ، فكأنه يقول أن القرآن نزل ليعالج حالات آنية زمن الدعوة، ولا يمكن أن يستقيم مع إيمانه أن كلام الله أزلي، باق الى الأبد.  

اضافة اعلان