النهضة العلمية باستيعاب التجربة الغربية

يجد الدكتور هشام غصيب أن الطريق العملي وربما الوحيد لإنجاز التقدم العلمي إنما يكون بالاستيعاب النقدي والإيجابي للمشروع العلمي والحضاري الغربي، ذلك أنها وببساطة حضارة متقدمة وناجزة ومهيمنة أيضا، وتسبقنا قرونا عدة، وسيمكننا هذا الاستيعاب الذي يسميه "الاستغراب" كمقابل لمفهوم "الاستشراق" من اختصار الزمن وحرق المراحل. فكرة الاستغراب كما يقدمها غصيب تقابل الاستشراق، بمعنى فهم ودراسة الغرب بمنظور عربي، وفي ذلك فإن الاستغراب مشروع عربي تقدمي لفهم الحضارة الغربية والاستيعاب النقدي للعلوم والفكر الغربي. وهناك شعور عام أنه لا مفر للمشروع النهضوي العربي من استيعاب المشروع الفكري والعلمي الغربي استيعابًا نقديًّا، ثم إعادة إنتاج وإبداع مشروع عربي، تكاد تكون هذه المقولة موضع إجماع التيارات والاتجاهات والمؤسسات والشخصيات المشتغلة بالنهضة. يمكن القول: إن الفكر العربي الحديث، في علاقته بالفكر الغربي الحديث، يتأرجح بين ثلاثة مواقف رئيسية: الموقف الاستشراقي، وموقف الاستشراق المعكوس، والموقف الاستغرابي. الموقف الاستشراقي هو الموقف الذي ينطلق من مسلمات المؤسسة الاستشراقية الغربية ومقولاتها الأساسية بصدد الغرب والشرق كليهما. إنه موقف ممثلي الاستعمار الغربي من العرب في الثقافة العربية الحديثة. وهو ليس نابعًا من خبرة العرب بالغرب بقدر ما ينبع من خبرة الغرب في العرب وديارهم. ومع ذلك، فإن هذا الموقف كبير الأثر في الوسط الفكري العربي الحديث. والاستشراق المعكوس هو موقف يقسم التراث العربي الإسلامي إلى جوهر أصيل مقدس برمته، وإلى دخيل مدنس مصدره أعداء الأمة الأزليون والأبديون. ولا يعرّف هذا الدخيل على أساس واقعه الفعلي المدروس، إنما يعرّف سلبًا بوصفه النقيض الكامل للجوهر المقدّس. فلا حاجة لمعرفة هذا الدخيل ومصدره معرفة واقعية بدراستهما علميًّا، فهو مجرد النقيض الشيطاني للجوهر المقدّس المعروف مسبقًا. هناك إذًا افتراض مسبق بمعرفة مسبقة ورفض مسبق لكيان نقيض. وهناك الموقف الاستغرابي بما هو نقيض الاستشراق، وينطلق هذا الموقف من الإدراك التاريخي للجماهير العربية للغرب بوصفه خصمًا متفوقًا، تمكن بانطلاقته الحداثوية اللانهائية الطابع ليس فقط من السيطرة على العالم، إنما أيضًا من الهيمنة ثقافيًّا عليه وإعادة تركيبه بما يحقق مآربه. لذلك، يسعى أصحاب هذا الموقف إلى معرفة الخصم باستيعاب فكره نقديًّا، بوصف هذا الفكر ثورة على آلاف السنين من أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، وتعبيرًا عن الرأسمالية في اندفاعتها المركزية. ويدرك المستغربون أن وعيهم في حاجة إلى تأهيل وتثوير حتى يتمكن من ممارسة الاستغراب، أي استيعاب الفكر الغربي الحديث نقديًّا؛ لذلك فهم يدركون أن الاستغراب يشكل مغامرة فكرية مُمِضَّة وثورة ثقافية دائمة تفكك الوعي العربي السائد وتعيد تركيبه باستمرار. والغرض من ذلك هو بناء عقل حركة التحرر القومي العربية وتملك هذه الحركة الأدوات الفكرية التي تمكنها من الانفتاح على الحقبة الحديثة والواقع الذي تعيشه بالفعل من جهة، وعلى تراثها الممتد في أعماق التاريخ من جهة أخرى. الواقع أن الاستغراب في سيرته وتشكله ليس سوى معركة تحديث «الإنتلجنسيا» العربية ورفع وعيها وممارساتها إلى مستوى تحدي العصر؛ تلك المهمة التي عدّها ياسين الحافظ الشرط الأساسي والجوهري للانتصار في معركة الاستقلال والتحرر القومي. مؤكد أن انحسار الفلسفة مرتبط بصعود التطرف والعنف؛ وسواء كان هذا الارتباط سببيًّا أو ظرفيًّا، فإن الحاجة إلى الفلسفة كبيرة في التعليم والتفكير والتنشئة، لكن الحركة الفلسفية العربية تعاني التهميشَ والانحسار، ومشروعات الثقافة العلمية أيضًا تواجه تحديات كبرى تهدد استمرارها ووجودها. ورغم ما يبدو في شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي من فرص كبرى للتعليم والتثقيف والمشاركة في التشكيل العلمي والفلسفي للأجيال والناشئة، فإن الحال يبدو غير ذلك، بل إن الشبكات تكرس الفوضى والإشاعات والتطرف، وتبعد فئة كبرى من الأجيال عن التعليم الجاد والفكر الرصين.اضافة اعلان