الهشاشة الأوروبية.. واقعة ميونخ مثالا


سهدّت عيون الألمان والأوروبيين، وطار النوم من جفون الملايين في مختلف أنحاء العالم، على وقع الحدث الإجرامي البشع الذي هزّ مدينة ميونخ، وأثار أشد المخاوف من انفلات عقال الإرهاب في أكثر مطارح الكرة الأرضية ملاءمة لتظهير صور الموت المشهدية، وترويج خطاب الكراهية، نظراً لكثافة أضواء المسرح الغربي، وفرط حساسية الأوروبيين وتطيّرهم إزاء أي مظهر من مظاهر الاضطراب والعنف اللذين باتا مرتبطين بصورة العرب والمسلمين، فجرى عليهم النبذ، ورفَعا حولهم أسواراً إضافية من العزلة والتهميش.اضافة اعلان
لقد أعادت هذه الواقعة المرعبة مشاهد لم تمح بعد من الأذهان الغضة، فاضت بها بالأمس القريب ليلة ليلاء في مدينة نيس الفرنسية، وقبلها في باريس وبروكسل، وغيرها من المدن والمنتجعات الغربية، الأمر الذي أضفى على الحدث في عاصمة ولاية بافاريا الألمانية مزيداً من الإثارة المطلوبة لذاتها لدى منظمات القتل الاستعراضي، المصممة على إعمال سيوفها في رقاب المدنيين الأبرياء، وتعميم ظاهرة التوحش، وإعادة إنتاج مفهوم الفسطاطين، وتجديد العمل بمنطق جورج بوش الابن: "من ليس معنا فهو ضدنا".
ولعل من محاسن الصدف أن واقعة ميونخ، التي بعثت في النفوس المتوجسة كل الهواجس المشروعة، أتت رغم فداحتها أقل بكثير مما واكبها من قراءات متعسفة، واستنتاجات متسرعة، تخلّقت في سديم المبالغات والأنباء المتواترة لحظة بلحظة، وزحمة تعليقات شهود عيان أطلقوا العنان لخيالاتهم الواسعة، حتى إن أحدهم قال إنه سمع الجاني بأم أذنه يقول: الله أكبر. الأمر الذي عزز فرضية العمل الإرهابي، وأجج التوقعات المسبقة، وفتح الباب على مصراعيه لبناء منظومة كاملة من النظريات المتماسكة حول "الذئاب المنفردة" والخلايا النائمة.
ومع أن الذعر والهلع كانا سيد الموقف في عموم ألمانيا طوال تلك الليلة، إلا أن المستشارية وإدارة الأمن الاتحادية، أظهرتا رباطة جأش لم نشهد مثلها في فرنسا وبلجيكا، ومارستا ضبطاً للنفس  يستحق الإطراء؛ إذ امتنع المتحدثون الرسميون، من كل مستويات المسؤولية، عن الظهور أمام وسائل الإعلام، أو الإدلاء بأي تصريح مرتجل حول مجريات حدث كان ما يزال في طور التفاعل. ما يشير إلى صلابة يحسد الألمان عليها، تكاد لا تمت بصلة إلى تلك الهشاشة التي بدت وكأنها سمة أوروبية تلقائية إزاء الحالات المشابهة.
ورغم هول الجريمة التي بدت للوهلة الأولى أكبر من حجمها الحقيقي بدرجات عديدة، فقد كان التحقق من انتفاء وجود دافع ديني يشي بشبهة إرهابية خلفها، واتضاح أن مقترفها ليس ذئباً متوحداً من صفوف اللاجئين الذين أحسنت ألمانيا وفادتهم على أرضها، سبباً وجيهاً لتنفس الصعداء من جانب كل الأطراف المعنية، بمن فيهم المستشارة أنجيلا ميركل راعية استضافة اللاجئين، فما بالك بهؤلاء الذين ضاقت بهم ديارهم، وهم يظنون كل الظنون بواحد قد فعلها من بينهم.
وأحسب أن كثيرين بيننا قد خامرتهم مشاعر الإشفاق حيال الفارين من جحيم ذلك الموقف المباغت الذي داهم المتسوقين والمارة قرب القرية الأولمبية على حين غرة، وهدد سكينة البرجوازية الأوروبية لساعات قليلة. إلا أن أحداً لم يغب عن ذهنه هذا الفيض الهائل من المشاهد الأشد قسوة والأكثر دموية، التي ما فتئت تتناسل من بعضها بعضاً، كل يوم وليلة، لتقلب حياة معظم شعوب هذه المنطقة إلى جحيم، تصطلي فيه أجساد أطفال ونساء وعجزة، أغلبهم من الفقراء والبروليتاريا الرثة، فأين أنتم مما نحن فيه أيها الأوروبيون؟
بكلام آخر، تبدو أوروبا المترفعة عما يجري في محيطها، وكأنها قارة أنانية شديدة الهشاشة، صادف أنها تقع في منطقة  تتعرض لسلسلة زلازل من درجة منخفضة على مقياس ريختر، تشعر بها فقط عقب كل حادث إجرامي، ثم تعود الحياة إلى أدراجها الطبيعية. أما نحن في هذه المنطقة المسكونة بالعنف والاستبداد والقهر، فلا بواكي لنا، ونحن نعيش في قلب أكبر صدع زلزالي على الإطلاق، حتى إن العالم كف عن مراقبة عداد ضحايا الزلازل اليومية، ومل منا ومن الاهتمام بما نتقاتل عليه، طالما أن القاتل والمقتول من السوية ذاتها.