أفكار ومواقف

الواقعتان الفارقتان عام 2014

لعلها المرة الأولى منذ وقت طويل، التي يطوي فيها عام ثقيل الظل أيامه الكالحات، ويمضي غير مأسوف عليه، من دون أن ترافق رأس السنة نبوءات سعيدة، أو توقعات متفائلة بعام جديد واعد برؤية الضوء في آخر النفق المديد، وبحدوث انفراجات وحلحلة للصعوبات والاحتباسات والأزمات الطاحنة، التي راكمها العام المنصرم في النفوس والأبدان والمجال العام، لدى أكثر الناس في مختلف الأصقاع والأمصار.
ومع أن هناك جملة طويلة من الوقائع الفارقة، تزاحمت على أجندة هذا العام، وطوّبته كواحد من أصعب سنوات الحقبة الزمنية الأخيرة، إلا أننا سننتخب منها اثنتين، كانت كل واحدة منهما واقعة تأسيسية فاصلة، وحدثاً عميق الغور، تتجاوز مضاعفاته حدود موضعه الذاتي، وتتعدى أصداؤه نطاق فضائه الخاص، وتشتمل تداعياته المتواصلة سائر المخاطبين به على الصعيدين الإقليمي والدولي.
الأولى، حدثت في أواسط العام، وتمثلت في اقتحام تنظيم “داعش” لمدينة الموصل واجتياح نحو 40 % من أراضي العراق، الأمر الذي وضع العرب والعجم والكرد والترك، بل والعالم كله، أمام حقيقة تحول منظمة إرهابية إلى دولة تعلن عن خليفة لها؛ تزيل حدوداً، وتمسك أرضاً، وتستولي على موارد، وتتولى أمر ملايين الناس، وتتحدى تحالفاً قوامه ستون دولة، وتفتح نحو خمس وعشرين جبهة معاً في بعض الأحيان.
لقد بدا “داعش” منذ ذلك اليوم الصادم في التاسع من حزيران (يونيو) الماضي، كأول تحد من نوعه للدولة الوطنية القائمة في حدود “سايكس-بيكو” منذ نحو قرن من الزمان، وظهر بمظهر قوة متوحشة لا راد لها، بعد أن جبنت أميركا عن مجابهة الخطر الداهم وجهاً لوجه، واكتفت بحرب جوية لا تكبح الجماح، فيما لا ترغب الدول العربية المعنية، ولا تملك قدرة على الرد والصد، خصوصاً أن بعض التقارير الإخبارية المكتومة تتحدث عن نحو ربع مليون “جهادي” يقاتلون في صفوف التنظيم.
إذن، نحن أمام متغير هو الأكثر أهمية، والأشد دموية، والأوسع نطاقا، كانت الموصل نقطته الفارقة قبل نحو نصف عام. الأمر الذي يمكن معه وصف العام الذي سنودعه غداً، بأنه عام “داعش” بامتياز، تكشّف فيه الواقع العربي عن محدودية استجابته للتحديات، حتى إن كانت تنطوي على خطر مصيري. فيما بدت هذه الطفرة الإرهابية العاتية، أشد هولاً من كل ما حفل به التاريخ العربي الإسلامي، قديمه وحديثه، من ظواهر مماثلة، منذ عهد الخوارج وعصر الحشاشين، وإلى زمن “القاعدة” الآن.
أما الواقعة التأسيسية الثانية المتصلة بالعام 2014، فهي تلك الهزة الزلزالية في أسعار أهم سلعة استراتيجية على الإطلاق، ونعني بها النفط الذي هبطت أسعاره بنحو 50 % مما كانت عليه، والحبل على الجرار. الأمر الذي يمكن معه تشخيص هذا الهبوط، البالغ بالأرقام المطلقة نحو خمسين دولاراً للبرميل الواحد، على أنه حدث تأسيسي آخر لا يقل أهمية عن الواقعة “الداعشية” المثيرة لأسوأ التوقعات. وهو ما يضاعف من وزن تداعيات هذا المتغير إذا ما أضيف حدوثه إلى ذاك.
ورغم أن هناك اختلافاً في رد أسباب هبوط أسعار النفط؛ بين قائل إن ذلك يتم بفعل دوافع سياسية، وآخر بأنه يجري بفضل عوامل سوقية، إلا أن النتيجة الماثلة لكل ذي لب، تشير إلى أننا اليوم لسنا أمام نظام دولي جديد فقط، وإنما أمام نظام نفطي جديد أيضاً، تحولت فيه هذه السلعة التي تدير ماكينة الحياة المعاصرة، إلى أحد أهم أسلحة حروب الجيل الخامس. وهو تطور يؤسس، بدوره، لعهد من الصراعات التي لا تسقط فيها نقطة دم واحدة، إلا أنها أشد فتكاً في لعبة الأمم ومعارك كسر الإرادات.
ومن لديه شك في صحة مثل هذا الاستنتاج، عليه أن يمحّص ما يتواتر على ألسنة القادة الروس من هلع، وأن يصيخ السمع إلى ما يصدر عن إيران من هذيان، يكاد يماثل ما تهجس به موسكو من تبرم شديد إزاء متاعب مالية متفاقمة وعقوبات إضافية، وضعت اقتصاد الدولة العضو في مجموعة الثماني الكبار (G8) على حافة الانهيار. الأمر الذي يرفع رتبة هذا التحول التاريخي في أسعار النفط، إلى منزلة واقعة تأسيسية، تضعها على قدم المساواة مع واقعة “داعش”، وقد تفوقها أثراً على المدى القريب.

تعليق واحد

  1. عن واقعتين في عام ينتهي
    أسعد الله صباحكم استاذ عيسى وبعدان استأذنكم ببدء مداخلتي من " الواقعة " الثانية , حيث أنسلاح النفط سبق واستخدم في " حربين " الاولى حرب تشرين 1973 حيث واجه الغرب صدمة تمثلت بانقطاع النفط واحد النتائج غير المعلنة هي الانتقام ممن اصدر القرار, أما الثانية فكانت في العام 1989 حيث اغرقت الاسواق العالمية بالنفط وهبط سعره ومن " ضحايا" ذلك الاغراق كان الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية حيث قفزت الراسمالية الى الانفراد ب " زعامة العالم" وهنالك تداعيات لاحقة بعد اقل من سنتين ادت الى الاشتباك الذي أدى لاحتلال العراقوالقصة بتفاصيلها باتت معروفة . اذن , فقد احتاج الراسمال العالمي الى عقاب روسيا لانها لا تستجيب الى ما يطلب منها من موافقات تساعد امريكا والغرب القديم على تنفيذ خطط يرونها مفيدة لمصالحهم من مثل تحجيم سوريا – ايران وهنا عاد سلاح النفط من جديد ليعاقب روسيا – ايران لصالح السياسة الامريكية التي طلبت القبول الروسي – الايراني بما تخططه بلاد العم سام . أما عن الواقعة الاولى فانا أتفق مع ما قدمتموه مع اضافة استأذنكم بايرادها والتي تتمثل بضرورة تسليط الضوء على المناخات التي ادت الى ظهور داعش واخواتها واعني هنا احتلال العراق والشحن الطائفي والفوضى المنظمة التي دفعت الى نشوء داعش وارتقائهابمساعدة الامريكانوبعض الحلفاء الاقليميين ومن ثم توظيف المناخات الجديدة في ارهاب الشعوب والدول من اخطار فرانكنشتاين الذي " خرج" عن السيطرة . الان , هل من رابط بين الواقعتين غير وقوعهما في عام اشرف على الرحيل؟ نعم,ولعل الاستعانة باواخر ايام الاحتلال الامريكي لفيتنام في منتصف العام 1975 حين لجأت القيادة الامريكية وامام تعاظم خسائرها الى ما عرف بسياسة " الفتنمة " حيث دفعت قوات فيتنام الجنوبية الى قتال الفيتناميين الشيوعيين وبقية القصة معروفة حيث خرجت امريكا واعلن عن وحدة فيتنام ولا اعتقد أن الامر بحاجة الى المزيد من الايضاح خاصة مع اصرار الامريكان على استخدام " الدرس الفاشل " في فيتنام , ذلك الاصرار الذي يعكس عدم الامكانية لقبول خسائر امريكية جديدة وكل عام وانتم والوطن والامة في كل خير .

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock