"الوحش" الذي خلقه نظامنا التعليمي!

حين تفكر الدول بتطوير العملية التربوية والتعليمية لديها، وبناء منظومتها وفق هوية واضحة، لا بد أن تنظر بشمولية إلى جميع أركان هذه العملية، وأن تمنح أدوارا موضوعية في الأداء والتطوير لجميع العناصر فيها، وإلا فإنه سوف يحكم على العملية بالفشل منذ البدايات، كون مدخلاتها مشوهة، أو لا تتصف بالعدالة والحكمة.اضافة اعلان
بوصفها واحدة من أنجح تجارب تطوير التعليم، تتلخص إستراتيجيات التجربة الفنلندية بـ”التعلم من أجل الحياة ومدى الحياة، تمكين المعلم لعملية التعليم، الثقة بالنظام التربوي بجميع مراحله، الشعور بمتعة التعلم والتعليم، نشر ثقافة الإبداع والابتكار بشكل مستمر”.
هذه مفاصل مهمة، حاول المخطط الفنلندي أن ينتبه إليها جميعها، وهي تختص بالطالب، والمنهاج، وتمكين المعلم، والإستراتيجيات والسياسات التعليمية، وفلسفة التعليم وهدفه.
لو أخذنا هذه المفاصل في التجربة الفنلندية، وحاولنا إسقاطها على تجربتنا الأردنية، سنتعرف على أوجه القصور التي يعاني منها نظامنا اليوم. وأول المتأثرين بها هو الطالب الذي لا يجد أي متعة في التعلم، كونه يدرس من أجل تحصيل علامات في امتحانات كثيرة تفوق أحيانا مقدرته الجسدية والذهنية، ما يؤثر على استيعاب كثير من الطلبة.
لقد خلق نظام التعليم الأردني “وحشا” كبيرا اسمه الامتحان، فكرّس جميع مدخلات التعليم لصالحه، بينما جرى تقديس كبير للعلامة أو المعدل، كما جرى وصم من لا يحصلون على علامات عالية بصفة “الكسالى” أو “ضعيفي الاستيعاب”، إلى غير ذلك من صفات تكفّل المجتمع بتكريسها ثقافة معلنة تجاه الامتحان والعلامة ومخرجاتهما. لذلك، فإن الطالب لا يتعلم من أجل الحياة ومدى الحياة، بل من أجل الامتحان الذي يرجو أن يخرج منه بسلامة.
ومع ذلك، فالمعضلة تتوسع حين نعرف أن مخرجات تلك الامتحانات لا تستخدم في الأصل لقياس مستوى تحصيل الطالب من المادة، بل لمستوى حفظه، لذلك تغيب، في الغالب، أي سياسات تقويمية للطلبة متدني العلامات، والتي لا تستخدم سوى في وضعها فوق الشهادات الموسمية المختلفة.
في الأنظمة التعليمية المتقدمة، تستخدم الامتحانات كأدوات قياس مهمة، ليس فقط لمستوى الطالب، بل لتكوينه التعليمي، وأيضا، لمستوى المادة، وجودة المنهاج، وفاعلية التدريس، وسلامة السياسات التعليمية.
ورقة الامتحان، أو إجابات الطالب، ينبغي أن تتعدى وظيفتها قياس العلامة، فهي من الممكن أن توفر مادة خصبة للدراسة من قبل متخصصين في المجال التربوي لتقييم شامل للعملية التعليمية برمتها، ويمكن لأشخاص مؤهلين أن يؤشروا بواسطتها إلى مكامن الخلل أو التشويه في هذه العملية، ما يفتح الباب أمام إصلاح حقيقي نابع من الحاجات الملحة، لا أن يكون إصلاحا هابطا بـ”الباراشوت” كما يحدث كل بضع سنين، بحيث يظهر التغيير كما لو منبتّا عن العملية برمتها، وغير موائم لما كان قبله أو ما يأتي من بعده.
في كثير من البلدان التي تقدم تعليما راقيا، فإن الصفوف الأولى، والتي قد تصل حتى الخامس الابتدائي، لا يخضع طلبتها لأي نوع من الامتحانات. إن قرارا تربويا مثل هذا لم يأت من فراغ، فخلال هذه السنوات المبكرة من تجربة الطالب يبدأ بالتعرف على النظام التعليمي وأهدافه، لذلك يراد له أن يرسخ في ذهنه أهمية التعلم لا أهمية الامتحان، كما يراد له أن يستوعب لا أن يحفظ، ويراد له أيضا أن يحصل تعلما جيدا لا علامة مرتفعة.
اليوم، وفي زمن التعليم عن بعد، تبدو الحالة الأردنية أكثر تشتتا وضعفا وانخراطا في “استقصاء الشكل”، إذ تتسابق المدارس؛ الحكومية والخاصة، في قطع الشوط الأكبر من الكتب المدرسية ضمن المدد الزمنية المعروفة سلفا، وصولا إلى الامتحانات التي تعلن عنها المدارس تباعا، وتصرح بفخر بأنها أنجزتها أو في طريقها إلى إنجازها، كما لو أنها هدف أساسي في العملية التربوية، بينما تدخل العائلات الأردنية رهبة هذه الامتحانات مع أبنائها، ويبدأ التوتر سيّدا للمشهد برمته.
هذا هو الوحش الكبير الذي خلقه نظامنا التعليمي؛ الامتحان والعلامة، لذلك كنا بارعين جدا في تخريج طلبة بلا مؤهلات لسوق العمل، لكننا فشلنا في أن نخرّج طلبة مبدعين قادرين على التغيير وجرّ مجتمعهم إلى التقدم والنماء.
وللحديث بقية.