الوساطة العراقية في الأزمة السورية

لم يكن مفاجئاً لكثير من المراقبين، ولا مخالفاً لتوقعاتهم المسبقة، هذا الاستقبال المتراوح بين التوجس والرفض والمراوغة من كلا جانبي الأزمة السورية، إزاء مغزى ومضمون مبادرة الوساطة العراقية، التي هبطت من مكان غامض على أرضية سياسية غير مهيأة، وجلبت لأصحابها من الأسئلة الاستنكارية وعلامات التعجب أكثر مما جلبته لهم من ترحيب وامتنان لائقين بالوسطاء المهابين المبجلين في العادة.اضافة اعلان
فمن جانب النظام المراهن منذ بدايات الأزمة على شراء مزيد من الوقت، والتموضع في منطقة رمادية بين الـ"لا" والـ"نعم"، جرى استقبال الوساطة العراقية على النحو الذي تم فيه استقبال سائر الوساطات العربية والدولية، على قاعدة استحسان المسعى من حيث المبدأ، وتوظيفه لهدر مزيد من الزمن والدم، وذلك من خلال طرح الاستفسارات والمماحكات اللغوية واقتراح التعديلات، تماماً على نحو ما حدث مع المبادرة العربية وغيرها من الاقتراحات.
أما من جانب أحزاب المعارضة وقادة تنسيقيات الثورة السورية، فقد قوبلت هذه الوساطة، التي تولاها مكتب نور المالكي وليس وزير خارجيته، بمزيج من الاستغراب والاستخفاف والرفض، ناهيك عن التشكيك بأغراضها، والارتياب بدوافع القائمين عليها. حيث قرأ هؤلاء وأولئك المبادرة العراقية هذه على أنها أتت بإيحاء من المرجع الإيراني المنافح عن حليفه في دمشق، إما لحماية النظام الآيل للسقوط وفق عدد من المؤشرات، وإما لقطع الطريق على المبادرة العربية وإجهاض مفاعيلها الدولية المحتملة.
كان لافتاً أن جميع قوى المعارضة السورية، على اختلاف توجهاتها، أنكرت مزاعم حكومة المالكي عن وجود اتصالات مع بعض هذه القوى، بل وذهبت إلى حد استنكار قيام أتباع إيران في العراق بدور وساطة هم ليسوا أهلاً له في الأساس، كونهم غير محايدين، إن لم يكونوا منحازين للنظام المقاوم عبر الأثير، وداعمين له بالرجال والمال وإمدادات المازوت، وغير ذلك من أشكال دعم قد تنجلي في قادم الأيام.
ولم يمض سوى قليل من الوقت حتى تبيّن بعض من أهداف هذه الوساطة غير البريئة، حين شن أحد أعضاء الوفد العراقي من دمشق هجوماً لاذعاً على الجامعة العربية ومبادرة لجنتها الوزارية، حيث بدا كلامه متساوقاً مع موقف حكومة المالكي إزاء الأحداث البحرينية، في مشهد ينم عن اصطفاف مذهبي تقاسم هلاله كل من المالكي ومقتدى الصدر وحسن نصرالله وأحمد الجلبي، فضلاً عن مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، وفريق من المعبرين عن هذا الاصطفاف المعلن على رؤوس الأشهاد.
ومع أن بعض تنسيقيات الثورة رفعت في يوم جمعة "الجامعة العربية تقتلنا" يافطات منددة بأقسى العبارات بالوساطة العراقية، وذهبت إحداها إلى القول عن المالكي "هذا الذي كان ناقصنا"، إلا أن وفد الوساطة العراقي تجاهل كل هذا الرفض والتنديد، ومضى في طريقه إلى دمشق، في الوقت الذي كانت فيه لجنة المتابعة العربية تجتمع في الدوحة، لطرح ما بدا أنه خطة بديلة لنسخ المبادرة العربية، والحيلولة دون نقلها إلى مجلس الأمن الدولي.
إزاء ذلك كله، فإن من المرجح أن تحصد حكومة المالكي، التي استبدلت قبعة رعاة البقر بعمائم الملالي السوداء، وراحت تستعجل عملية تصفية خصومها من سنة العراق، خسارة صافية من وراء هذه الوساطة، ليس فقط جراء رفضها التام من جانب قوى الثورة السورية، وإنما أيضاً بسبب تحفظات دول مجلس التعاون الخليجي التي تقود العمل العربي المشترك في هذه الآونة، على أي تحرك من شأنه ترجيح وزن الدور الإيراني ومنحه مفتاح حل الأزمة السورية.
ولعل الخسارة الإضافية التي ستحصدها حكومة المالكي، التي ليس لها دالة على محيطها العربي، ستنجلي في وقت لاحق، عندما تتبدد تلك الفرصة الضئيلة لاستضافتها مؤتمر القمة العربي المقرر عقده في وقت ما من العام المقبل، ليس لأن هناك هجوماً كاسحاً ضد الشركاء المفترضين في العملية السياسية المتعثرة في بغداد، ولا لأن الأوضاع الداخلية حبلى بالتطورات الأمنية العاصفة، وإنما بفعل هذه الوساطة الهادفة على المكشوف إلى تهميش دور النظام العربي في حل الأزمة السورية، وتجييره لإيران.

[email protected]