الوطن العربي الجديد!

سواء أكان عدد الضحايا العراقيين منذ الغزو الأميركي في العام 2003 يزيد عن 600 ألف قتيل، كما تؤكد ذلك نتائج أبحاث فريق متخصص من جامعة جونز هوبكنز الأميركية وجامعة المستنصرية العراقية، والتي نشرت في مجلة لانست (The Lancet) الطبية البريطانية، أو انخفض هذا الرقم إلى حده الأدنى، وهو 44380-49297 (حتى يوم أمس)، بحسب الموقع الالكتروني "Iraq Body Count" المخصص لإحصاء عدد الضحايا المدنيين العراقيين منذ الغزو -وبين هذين الرقمين عدد هائل، إنما مجهول، من المعوقين جسديا ونفسيا بسبب الحرب- أيا كان، يظل هناك في وسط هذا التناقض والغموض، ثمة حقيقة واحدة مؤكدة، وهي أن الغالبية العظمى من الضحايا العراقيين لم يسقطوا بسلاح الجيش الأميركي، بل بسلاح عراقي، عربيا كان أم غير عربي، أو بسلاح عربي، عراقيا كان أم غير عراقي، أو بسلاح إسلامي، عربيا كان أم غير عربي!

اضافة اعلان

مع ذلك، يستطيع أي كان، لا سيما من العرب، المحاججة بأن ما يحصل في العراق اليوم ما كان ليحصل أبدا، أو حتى ليخطر على بال لولا الاحتلال الأميركي ابتداء، ومن ثم عملية إدارة هذا البلد المحتل بعقلية وأسلوب ينحدران إلى مستوى "قتل العراق"، بحسب تعبير الرئيس السابق لمكتب صحيفة واشنطن بوست ببغداد راجيف تشاندراسيكاران.

طبعا، تلك المحاججة، أو جزء منها بعبارة أدق، تخضع للمحاججة بدورها؛ وتعليق كل ما يشهده العراق اليوم من فظائع على مشجب الاحتلال لا يكاد يصمد أمام أي نقاش حقيقي لمسؤولية ممارسات الفترة (الوطنية) السابقة للاحتلال الأميركي عن مآس اليوم.

مع ذلك لنسلم أن العراق إذ تحول إلى مستنقع للمحتل والمواطن على حد سواء، فانعدمت فيه الرؤية والقدرة على التمييز بين الضحية والجلاد، إنما يجسد استثناء كاملا لا يمكن الاستناد إليه لتوصيف حال الوطن العربي الجديد. لكن هنا يبرز الدليل الأوضح والأخطر على النسخة الجديدة لوطنيتنا وعروبيتنا، وهو الصراع الفلسطيني-الفلسطيني، أو الفتحاوي-الحمساوي، الذي يوشك في ظل استمرار المعطيات الحالية أن يغدو القاعدة والأصل، وقد كان حتى فترة قريبة خطاً أحمر ومحظورا لا يجرؤ أحد حتى على تخيل تخطيه.

والفلسطينيون الذي كانوا يقدمون نظريا -بانتماءاتهم الحزبية والتنظيمية المتعددة في الإطار الوطني الواحد- البيئة الأمثل لديمقراطية عربية حقيقية، باتوا اليوم ينافسون أي مجتمع عربي بدائي قسم بين "مع وضد" أو "وطنيين وخونة" أو "مؤمنين وكفرة"! أتراها علمانية ملحدة ترفض التصالح مع الدين؟ أم تراها دينية عمياء متعصبة نصّب أنصارها أنفسهم آلهة على الأرض؟ أم هو قصور جيني يجعل العرب أمة عصية على الديمقراطية، مازوشية برضاها؟

الذبح على الهوية، أكانت دينية أو طائفية أو عرقية أو حتى سياسية، ليس هو السمة الوحيدة لـ"وطن" أو "أوطان" عرب اليوم، إذ هناك أيضا الذبح على لون البشرة في دارفور، كأدنى درجات العنصرية، حيث يطال الإجرام المسلمين وغير المسلمين طالما كانوا ببشرة غامقة لا تستقيم ولون العرب المتورد!

وإذا كان كل ما سبق نتيجة ودليل على عقم فكري على المستويات كافة، رسمية وشعبية، فإن دارفور هي إضافة إلى ذلك دليل على العمى السياسي والاستراتيجي! إذ فيما العالم كله يتحدث عن واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ في إقليم دارفور، وعن مذابح لاإنسانية تطال المسلمين وغير المسلمين من أهل دارفور على يد أشباح؛ فوحدها الحكومة السودانية ترفض ذلك. ولأن السودان دولة عربية ويعنينا استقلالها، لا سيما في مواجهة الخطط الإمبريالية لنشر قوات دولية في دارفور، فقد آثر القوميون والإسلاميون العرب التزام الصمت والعجز إزاء ما يجري هناك، "على أمل" مجيء القوات الدولية، كون ذلك يشكل مناسبة للخروج بتظاهرات حاشدة، وإلقاء بعض الهتافات التي تستر عورات عجز نخبنا على الصعد كافة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية!

الوطن العربي الجديد لم يكن الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج دون حدود، ولم يكن النسخة الحضارية التي نرد بها على هيمنة إسرائيلية في شرق أوسط كبير وجديد في آن، الوطن العربي الجديد هو حيث يخوض كل إخوة العروبة حرب الكل ضد الكل، ويستمد القاتل والقتيل هويتهما!

[email protected]