اليوسفي : كل ماحولنا يشهد اننا نعيش عصر غيرنا

اليوسفي : كل ماحولنا يشهد اننا نعيش عصر غيرنا
اليوسفي : كل ماحولنا يشهد اننا نعيش عصر غيرنا

ناقد  تونسي يجمع بين الرواية والترجمة وكتابة الشعر

 

        حاورته : عزيزة علي

اضافة اعلان

دمشق- يؤكد الشاعر والروائي  التونسي محمد علي اليوسفي أن "قطيعة الجمهور مع الشعر" تعود إلى انفتاحه على غيره من الاعمال الابداعية الاخرى كالرواية والقصة وغيرها.  ويرى اليوسفي الذي صدر له ثلاثة دواوين شعرية هي "حافة الأرض" 1988. و"امرأة سادسة للحواس" 1998، و"ليل الأجداد"1998، "" ان الشعر ما يزال كسولا وخجولاً. لكنه لا يندثر وسوف يظل محصوراً بين فئات نخبوية فيما يتسرب إلى الآخرين عبر وسائل العصر: من خلال اللوحة والفيلم والمسلسل والأغنية"

ويضيف اليوسفي الذي صدر له أيضا اربع روايات هي "توقيت البِنْكَا" التي حصلت على"جائزة الناقد للرواية"1992، و"شمس القراميد" أيضا، وحصلت على"جائزة كومار:الريشة الذهبية" 1997، و"مملكة الأخيْضَر"، 2001، "بيروت ونهر الخيانات"، 2002" ان هناك من يجمع بين كتابة الشعر والرواية، في عملية يُنظر إليها، للوهلة الأولى، وكأنها هروب من ضيق الشعر إلى رحابة الرواية".

ولليوسفي العديد  من الترجمات الشعرية والروائية مثل "حرية مشروطة، أوكتافيو باث"، "مدائح النور، مختارات من الشعر اليوناني" وفي الرواية "حكاية بحار غريق، غابرييل غارسيا ماركيز"، و"خريف البطريرك، غابرييل غارسيا ماركيز"، و"البابا الأخضر، ميغيل أنخل استورياس"، "ناراياما، شيتشيرو فوكازاوا"،" مملكة هذا العالم، أليخو كاربنتييه"، "بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة، داي سيجي".

 حول قضايا الشعر والرواية والترجمة  "الغد" التقت الروائي والناقد والشاعر محمد لطفي اليوسفي في دمشق وكان معه هذا الحوار

*  كثر الحديث في الاونة الاخيرة عما يسمى بازمة في الشعر العربي، الى اي حد اولا توافق على وجود هذه الازمة  وماهي ابرز ملامحها؟

-كثر الحديث فعلا عن أزمة يعاني منها الشعر العربي. وربما كان المنطلق دائما هو أن الشعر "ديوان العرب". بل ان المنطلق هو كذلك فعلاً. ذلك أن هذه الأزمة لا تخص العرب وحدهم. فأزمة الشعر عصفت بالعالم كله، قبلنا. ولعل ما يسمى بأزمة الشعر، في بعض جوانبها، هي بالأحرى أزمة عصر، وتطور ذائقة.

إنه عصر ربى ويربي جمهوره بمعطياته الخاصة والمستحدثة. لا أعتقد أن هناك أزمة في الشعر، بما هو شعر وأينما كان هذا الشعر. فهل هناك بالمقابل "أزمة جمهور؟" نعم، ولا في آن "نعم" لأن الجمهور الواسع لا يكترث بالشعر . والإجابة بـ"لا" تبرر للجمهور عزوفة عن الشعر؛ أنه جمهور صورة وفرجة.

حدث ذلك تباعاً من خلال تطور الفنون المشهدية عندنا، من المسرح إلى التلفزة، ومن السينما إلى الفضائيات، وصولاً إلى الحاسوب والإنترنت.

كلها فنون استعراضية، أبعد ما تكون عن جوانية الشعر وحميميته. الشعر ما زال كسولا ومكتوباً وخجولاً. لكنه لا يندثر. ولن يحصل ذلك. سوف يظل محصوراً بين فئات نخبوية فيما يتسرب إلى الآخرين عبر وسائل العصر: من خلال اللوحة والفيلم والمسلسل والأغنية، وما إلى ذلك.

وكثيرا ما يلام الشاعر حول الغموض والإبهام وكذلك تعاطي قصيدة النثر (غير الأصيلة) مع أن كل ما حولنا يشهد أننا نعيش عصر غيرنا. ما زلنا نطالب الشعر وحده أن يظل أصيلاً. من حق الشعر ان يتطور. ومن يواكب تطوره يدرك أنه لا يعاني من أزمة، ولا من غموض، ولا من إبهام.

كل ما هنالك أن "قطيعة الجمهور" مع الشعر تعود إلى انفتاحه على غيره، واستدراكه، بين المناسبة والأخرى، لسماع شعر جديد، أو قراءته في حالات نادرة، فيكتشف أنه في وادٍ والشعر في واد. وفي أحسن الأحوال يكون الوادي الأول هو "وادي عبقر" حيث يثوي عباقرة الشعر العربي من القدامى الذين تربينا، وما نزال على هدهدة إيقاعاتهم وعمق حِكََمهم، وأصالة منابتهم.

أما الوادي الثاني، أي ما يخص الشعر الحديث، فقد شهد تدفق مياه كثيرة عبر العصور العربية، وغير العربية انفتح على أشعار العالم، وعلى إيقاع العالم، وغازل الفنون الأخرى، واستمد إلى جذوره كل ما رأى أنه نافع ومفيد للتطور.

فكيف نتحدث عن أزمة في الشعر، والحال أن شعراءنا الجيدين كثيرون، وينافسون شعراء العالم أيضاً، لولا تقسيمه إلى محاور خيّرة وشريرة، أو نيرة ومعتمة. وحتى الذين لم يحققوا إنجازاً عاليا في مشروعهم الشعري استطاعوا، في الحدود الدنيا، البرهنة على أن الشعر ليس في أزمة وما زال له مريدوه ورواده "وفرسانه" ومشاته ومنكوبوه ايضا!

 واضيف هنا ايضا أن العصور السابقة نفسها شهدت مثل هذه الظواهر. فكل عصر كان يتميز "بفحل" واحد أو "فحلين"؛ بينما ننظر نحن الآن إلى الخلف ونظن أن كل الشعراء العرب الكبار وجدوا في مرحلة واحدة. وحتى الجمهور... فقد نحسب ان كل الرعايا العرب أيام  وهجهم الحضاري  كانوا يحبون الشعر. فليكن! لكن لابد انهم "مضطرون" لذلك. لم يكن لديهم وسائل فرجوية متعددة. لكن الشعر الفصيح، لم يكن بالتأكيد في متناول الجميع. وهذا ما يفسر نشأة الحكايات وازدهارها وتأتي في مقدمتها "ألف ليلة وليلة".إذا، الأزمة حاليا، ليست في الشعر ولا في الشاعر: إنها معطيات عصر جديد.

* غالبا ما يتم تداول مقولة ان نجم الشعر يأفل لصالح الرواية  ما الجديد الذي يمكن اضافته هنا من ان الرواية اصبحت ديوان العرب؟

-لأن الرواية حديثة العهد عندنا، فقد سهلت الإشارة  إليها بأصابع الاتهام. الا انه ما يزال عدد الشعراء أكبر من عدد الروائيين. بل وهناك من يجمع بين كتابة الشعر والرواية، في عملية يُنظر إليها، للوهلة الأولى، وكأنها هروب من ضيق الشعر إلى رحابة الرواية. والمسألة في رأيي لا ينبغي أن تحاكم هكذا. فليس كل من كتب الشعر قد "هرب" إلى الرواية أولا. وثانيا، أراد مَنْ جمع بين الشعر والرواية أن يفتح سجلاً مختلفاً للحياة النثرية والإيقاع اليومي ربما تضيق بهما القصيدة. هذه الظاهرة موجودة بكثرة في الغرب، أي الجمع بين الرواية والشعر (لرونس داريل، لوي أراغون، أستورياس، بورخس... إلخ) وان كانت الغلبة النوعية تتم لنوع على حساب الآخر.

- أنت تونسي تنقلت في الوطن العربي وأوروبا، ماذا يعني لك المكان؟

-"الوطن منفى، اللغة وطن" يقول الروماني "إميل ميشال سيروان". هناك رائحة هي أول ما يصدمك في أي مكان جديد. تلك الرائحة سوف تشكل فيك، لاحقاً، ماضي ذلك المكان. وهي الرائحة التي سوف تبحثين عنها إذا عدت إليه؛ لكنك لن تجديها! هي الذكرى الأهم في مديح المدن؛ ثم تأتي التفاصيل.

لعل تغيير المكان هو أفضل وسيلة لإدراك الزمن في قسوة تجزيئه،  وبالتالي في إدراك قِصَرِه الذي يعني أيضا قِصر العصر، عندما يُنظر إليه موزعاً قطعا في أمكنة.

كل مكان تغادرينه، يجعلك المكان الذي يليه، تعودين إليه. ونادراً ما يستطيع المكان الجديد استيعابك كليا ودفعة، وخاصة إذا لم يكن مكاناً جديداً تماما، إذا كان قديماً أو معهوداً، إذا كان يشكل مآباً أو مآلاً؛ وكثيراً ما نخشى سوء المآب وخيبة المآل.

ولا بد أن تكون هناك صدمة متأتية من حقائق ملموسة، تعود في الدرجة الأولى إلى ... الانتماء.

فالذي لا ينتمي هو الوحيد الذي يستطيع الاستهانة بامتلاك. وهذه ليست شجاعة منه؛ بل هي رد على قهر.

بعيداً عن المكان الأصلي، موطن المآب والمآل، أو ما يمكن أن ندعوه تجاوزاً، بـ"الأوطان"، لا تغدو هناك أهمية دراماتيكية للامتلاك الأبدي. ولنسمه "امتلاك الاستقرار" ("الفقر في الوطن غربة،  والغنى في الغربة وطن" يقول علي بن أبى طالب) وما دامت هناك عودة إلى مكان آخر، فمعنى ذلك أن هناك مستقبلاً في مكان آخر.

*يقال إن الأدب أبن بيئته، ما رأيك وأنت تعيش خارج بيئتك؟

-بالعكس، أنا لا أعيش خارج بيئتي. بل اتنقل منها وإليها، في حركة أشبه ما تكون بالاتصال والانفصال، وهو يحقق في شتى المجالات (من الحبّ إلى الكهرباء!) كثيراً من الفوائد، منها وضوح الرؤية وتعدد زوايا النظر، والاغتناء بفائدة إضافية من فوائد السفر التي يقال أنها سبع فوائد!

*يتهم الأدب في المغرب العربي، وخصوصاً الذي يكتب باللغة الفرنسية، انه ذو منظور استشراقي ما مدى صحة هذا التوصيف ؟

-ذاك هو الأدب الذي يخاطب أفق انتظار الناشر الغربي، ومن ثم القارئ الغربي. والناشر، طبعاً، أدرى بقارئه وبسوقه. ومن المعروف أن الناشرين في فرنسا مثلاً يتدخلون في رؤى كتابهم الأجانب، بل وكثيراً ما يقدمون لهم "وصفة" بما يُستحسن أن يكتب. فيما بعد، وعندما يتم الحديث عن أدب مغاربي، يكون ممثلوه الوحيدون تقريباً هم هؤلاء الذين يعيشون في الغرب ويُثرون الفرنكوفونية باستكشاف "القارات المجهولة" ذات النكهة الغرائيبة الممتعة!.

أما الرواية التي تكتب بالعربية فليست كذلك، إنها ألصق ما تكون بهموم بيئتها وبتطلعات أصحابها إلى الكونية من خلال الخصوصية. وهذا لا ينفي طبعاً محاولة البعض مغازلة الترجمة، عبر "بهارات" استشراقية يكون لها مفعول السحر والجاذبية على الغرب.

*يبدو الزمن واحدا من هواجسك الكتابية هل هي رغبة بالانفلات من اسره؟

-نعم لانني ارى ان الفن وحده هو القادر على الديمومة بعدنا، رغم سطوة الزمن. والزمن هو نحن في لحظتنا، وفي الماضي أيضا. لذلك يسكنني هاجس الأسلاف  في كتاباتي الشعرية (حافة الأرض، امرأة سادسة للحواس، ليل الأجداد، و... قريباً ليل الأحفاد) وكذلك في رواياتي (توقيت البنكا، شمس القراميد، مملكة الأخيضر، بيروت ونهر الخيانات...).

*ثلاثيتك الروائية، هل هي خلاصة تجربتك الشخصية؟ وماذا تقول عنها؟

-دعيني اشير الى انه هناك خطأ وقع في  ترتيب نشر روايات  (شمس القراميد، دانتيلا، مملكة الأخيضر)اذ كان ينبغي أن تصدر رواية "دانتيلا" بعد "شمس القراميد" مباشرة، لكن الذي حصل أن "مملكة الأخيضر" صدرت في دمشق قبلها، وذلك يعود إلى تخلف النشر عندنا في تونس، وإلى مزاحمة الكتب المدعومة فرنكوفونياً، مرة أخرى! على كل حال،"دانتيلا" ستصدر قريبا عن دار الفارابي في بيروت.

تجمع الثلاثية، ضمن استقلالية ممكنة لكل جزء عن الآخر، بين زمن الأسلاف (شمس القراميد) وحاضرنا (دانتيلا" والمستقبل الكرتوني الفانتازي (مملكة الأخيضر").

وهي بهذا المعنى، تجربتي، أو بالأحرى رؤيتي لعصري الذي يتجاذبه ماضي الأسلاف ومستقبل القادمين.

*دور اللغة الشعرية في كتاباتك الروائية، كيف ترى هذا الدور، وماذا قدمت لك؟

-حاولت ألا تكون الرواية فاقدة لإيقاعها عبر التركيز على العنصر اللغوي، والشعري تحديداً. أفضل أن تكون الشاعرية متأتية من خلال العلاقات والأماكن والظلال ومن خلال السلوك أيضا. وهذا لا ينفي أن اللغة الشعرية تتدفق تلقائيا عندما يكون هناك مثير لتدفقها.

*قمت بترجمة أدب لكتاب عالميين، ماذا عن اثر هذه التجربة في ابداعك ؟

-المصادفة وحدها جعلت مني مترجماً. كان ذلك بين نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات... حتى حصار بيروت حيث كنت اقيم فيها العام 1982. كنت أقتصر على كتابة الشعر، والاندهاش أمام الغليان السياسي والعسكري وكثرة النظريات والجبهات.. وجهلي التام بما يميز بينها فيفرق أو يجمع. أصدقائي قادوني إلى دور نشر، ودور النشر قادتني إلى الترجمة، وكان أن قرأت كثيراً لأختار، وأترجم... وربما لأكتب روايتي أيضا. وكم من الطرائف حصلت. خصوصا عندما يرفض الناشر كتباً سوف تفعل فعلها لاحقاً، كما حدث مع "ماركيز، وأوكتافيوباث" وغيرهما!

التأثير على ادبي لابد أنه حاصل، غر ان غيري من هو  قادر على استكشافه أكثر مني. لكني أستطيع الإشارة إلى تنوع موضوعاتي، المستفيدة من الرواية العالمية من حيث الشكل خاصة، وكذلك الأبعاد الشعرية العائدة إلى الهوى الفني الأول عندي، فضلا عن الخلفية الفلسفية التي وفرتها لي دراستي الجامعية بين دمشق وبيروت وهناك كثير من النقاد والمتابعين الذين أشاروا إلى مثل هذه الملاحظات.

*كيف تنظر الى دور المثقف في ظل العولمة وأثرها على الأدب العربي ؟

-العولمة ليست "غولاً" كما تصور لنا. ولابد من التعاطي مع حركة التاريخ، وعدم الانكفاء والانسحاب على طريقة المتصوفة، أو حتى على طريقة الحشاشين! لقد تقدم الزمن على الرغم من هؤلاء وأولئك. وما من أحد أوقف عجلة التاريخ الطاحنة، حركة التاريخ الماكرة التي لابد لها من ضحايا في طريقها، كما يقول الفيلسوف هيغل.

وبالنظر إلى ان واقعنا يكذب شعاراتنا، حول ادعاءات "الالتحاق بالركب الحضاري"، وبالنظر إلى ان البدايات لا تُحسب بالاعوام ولا حتى بالعقود، فإن ادعاءات "الالتحاق" هي عملية التحاق "ضمن التبعية" لا سيما وأن العامل الذاتي وحده لم يعد كافيا لصنع حضارة. وطريق جهنم معبّد أيضا بالنوايا الحسنة.أما خصوصيات "الآخر" فكل حضارة- بما فيها حضارتنا الآفلة- انما تنظر إليها بما يخدم مصالحها.