امرأة لا تقرأ أحلام مستغانمي!

قبل عقد وشيء كنتُ طالبا جامعيا كسولا، غير مواظب على حضور أيِّ محاضرة، وكان لي غاية خبيثة في ذلك: أنْ أقتفي أثرَ طالبة مجتهدة تلقمُني الدروسَ على مهل!

اضافة اعلان

أردْتُ أنْ تكونَ الطالبة "مختلفة"؛ وقد كانت تلك كلمة فضفاضة جعلتْني أهدرُ عام "السنافر" (وهو مصطلحٌ جامعي يُطلقُ على طلاب السنة الأولى) في تجاربَ شديدة التناقض؛ فأجدني خارجا من حلقة نقاش مفتوحة على الاحتمالات التي تختلفُ، بقليل من الودِّ، حول "مرجعيَّة" الإيقاع الذي استخدمه الفنان الذي لم يعد شابا.. عمرو دياب، في أغنية "تملي معاك"!

وكثيرا ما كنتُ أستأذنُ (أو أهربُ بمعنى أدق) في منتصف طريق أمشيه مع فتاتين إلى المكتبة، لحسم جدل فلسفي طارئ لم يبت بشأنه مجلسُ عمداء كلية الفلسفة.. التي لم أكن أنتسبُ إليها بالضرورة!

راوغتُ الطالبات اللواتي يعتذرنَ عن السلام باليد، ولم أجد متعة لها مذاق جديد مع الفتيات اللواتي يسعفنَ رشْحي بمنديل ورقي أحمر..، لكنني كنتُ شديد القلق من فتيات يَرْهَنَّ موعد الغرام بالخروج سالمات من المظاهرة الشرسة التي تنوي الذهابَ إلى السفارة الإسرائيلية!

كلهنَّ رأيتهنَّ عاديات، إلا تلكَ التي مشتْ نحوي بخطوات عجولة، وأوقفتني في ردهة القسم الرمادية لتعيرَني رواية عنوانها "ذاكرة الجسد". خضَّني الاسمُ، وأكثر ما داعَبَ مخيَّلتي المتحفزة للسوء أنَّ فتاة تتبَعُني لتسرُدَ عليَّ بشكل موارب ما مرَّ على الجسد من ذكريات..، حتى ولو أوكلتْ ذلك إلى سيِّدة كنتُ إلى ذلك الحين أجهَلهُا، وأستصعبُ لفظ اسمها غير الموسيقي:"أحلام مستغانمي"!

قرأتُ الرواية بلذة بالغة، ولم يكن لذلك علاقة مباشرة بتقريظ مكتوب بخط يد الشاعر نزار قباني، فقد كنتُ مشغولا بالتقاط المغزى الكامن في عبارات وضعت تحتها القارئة الأولى خطا أو خطين بالأزرق..، ولما مضيتُ أكثرَ في الصفحات لفتت انتباهي خطوط منتظمة بقلم رصاص.. تحت عبارات أشدُّ مكرا؛ أو أوضح فتنة!

.. ولما أعَدْتُ الكتابَ إلى القارئة الأولى سألتها عن الخطوط الرصاصية، فأجابتني بغيظ لافت أنَّ الذي وضَعَتْها قارئة أخرى للكتاب؛ فكظمتُ فرحا ليس بريئا: إذن هناك فتاة أكثر اختلافا!

رحتُ أبحَثُ عنها..؛ وللأمانة لم أكن صادقا تماما، وكنتُ بشكل ما أحاولُ تطبيقَ العبارة التي قرأتها مرارا في الرواية (وفي كلِّ مرَّة أجد تحتها خطين: أزرق ورصاصيا)، وهي التي سأسمَعُها كلما صادفتُ امرأة جديدة: "أجملُ حبٍّ هو الذي نعثرُ عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر"؛ وأكونُ بالضرورة.. الشيءَ الآخر!

وعدْتُ خاسرا في كلِّ جولاتي، فكلُّ اللواتي قابلتهنَّ كنَّ يسألنني بعد حوار مقتضب: "هل قرأتَ لأحلام مستغانمي؟!"، وكلهنَّ لما يسمعنَ إجابتي الإيجابية حتما، يُشرنَ عليَّ بقراءة صفحات معيَّنة من الرواية التي لم تعد جديدة: "فوضى الحواس". وكلهنَّ أيضا وجَّهنَ لي ذات الدعوة التي وجهتها الكاتبة لبطلها الورقيِّ إلى السينما لتتعقد العُقدة "الروائية" أكثر!

ضجرتُ فعدتُ لمريدات عمرو دياب، والمشغولات بجدل فلسفي لا ينحسم، واللواتي لا يصافحن، وكذلك مَنْ يُفرطنَ بإهداء المناديل الحمراء، وانتظرتُ أكثر من فتاة بعد المظاهرة الشرسة..، لكنني وجدتُ نفسي لديهنَّ جميعا "رجل الوقت سهوا"، وحبِّي ليس أكثر من "حالة ضوئية في عتمة الحواس"!!

تعرفتُ إلى نساء كثيرات في سنوات لاحقة؛ ولم يكن الأمرُ مختلفا، لكنه صارَ أكثرَ جديَّة عندما أصدرت "السيِّدة أحلام" روايتها الأخيرة ضمن الثلاثية، وكانت باسم شديد الإثارة "عابر سرير"، وكان ذلك يُناسِبُ مرحلة النضج التي بدأت لديَّ.. على نحو متأخر جدا!

وهكذا خرجتُ مجرَّد عابر من كلِّ النساء اللواتي ظننت أنهنَّ مختلفات، وكانَ الأمْرُ يتكشَّفُ سريعا عندما يسألنني عن "السيِّدة أحلام" التي أفسدت كلَّ علاقاتي السابقة، رغم أنه ليس بيني وبينها أدنى خلاف أو تنافس (وبالطبع لن يكون؛ فهي كاتبة مشهورة جدا وأنا كائنٌ مجهول). لكن كلُّ ما أطلبه منها أنْ تترُكَ لي امرأة واحدة فقط: لها جسدٌ لا ذاكرة له، وحواس تعملُ بوظائفها الأصليَّة، وسريرها راجحٌ لا يتخيَّلُ مرورَ العابرين!

واليوم مشيْتُ. التقيتُ امرأة جديدة..، قبلَ أنْ تتكلمَ باغتُها وأخبرتها أنََّ أجملَ امرأة هي تلك التي حين تعثرُ عليَّ تقبِّلني بشوق وتقول:"وجدتكَ رغم أنني كنتُ أبحثُ عن الحُب"!!

[email protected]