ضيوف الغد

ايدولوجيا وحسب

معاذ دهيسات

نجح الوشاة بالعبور إلى الباحة الخلفية لأفكار عطيل ودسوا فكرة خيانة زوجته يقاوم البطل بالبداية ولكن سرعان ما يختصر الراوي المأساة بجملته التي باتت شاهد القبر للدزدمونة: «كلمات الواشي تبدأ بهمسات عابرة، وبتكرارها داخل كرة الجمجمة تتحول الوشاية الى مسلمة لا يمكن دحضها».
العبور للاوعي تماما كغزو الفردوس للباحثين عن السلطة والسيطرة حيث تتحول عملية تشكيل كتلة الأفكار المبهمة في لا وعي الجمهور والأفراد إلى ساحة المعركة الحقيقية بين أرباب هندسة الجمهور فيتم قصف العقول آلاف المرات باليوم عبر الذراع الإعلامية الضاربة لكل فيلق سياسي ليتم اجتياح قطاعات المجتمع أمام سلطته السياسية بدون إطلاق رصاصة واحدة
يذهب فلم الخيال العلمي ( استهلال ) للمخرج نولان إلى طرح فكرة تتعلق بزراعة فكرة داخل دماغ رجل أعمال ضمن مؤامرة لدفعه للاقتناع بتفكيك امبراطوريته التجارية حيث يتم ارسال الفكرة المعلبة عبر وسيط يستطيع الولوج إلى تلافيف دماغه ويتركها تنمو بسكون ليعتنقها الهدف مؤمنا فيما بعد انها من بنات أفكاره ويصف برترند راسل بؤس هؤلاء المستهدفين بقوله قد تقضي عمرك وأنت تعتقد بأنك تدافع عن أفكارك، ثم تكتشف أنك في الحقيقة تدافع عن أفكارهم التي زرعوها في عقلك.
انها عملية متقنة تديرها علوم متكاملة وليست مجرد خيال علمي فمثلا الاقتصاد السلوكي وهو ببساطة مزيج السحر الحديث الذي جمع بين السيكولوجيا وعلم المال يتم من خلاله تحليل عمليات صنع القرار التي يتخذها الأفراد والشركات، رؤيا جديدة اجترحها ريتشارد ثالر في مشوار نوبل التي حازها من خلال هذا الفهم. وعليه نشأ مضمون استمراري لعلم في عالم التسويق يتحرك وفق قراءة عقل الجمهور والأفراد والمؤسسات ويسبق أفكارنا، هو في الحقيقة لم يسبق أفكارنا ببساطة قام بزرع هذه الأفكار ويقوم بحصدها.
علم ليس بجديد فقد سبق أن قص شريط بدايته مسبقا الأميركي (ادوارد بيرنز) وتتلخص فكرته بمطلع عقد العشرينيات من القرن الماضي عندما قرر صنع خلطته المعرفية السرية عبر أخذ الكثير من أفكار عمه العالم الكبير سيجموند فرويد في علم النفس ليضيف لها علم قطاع المعلومات ويدمجهم معا منشئا معرفة جديدة نسبت له وهي العلاقات العامة.
وهنا تكمن خطورة السؤال كيفية تشكيل المعتقد وهل نحن من صنعنا الفكرة ام تم زرعها في شبكتنا العصبية دون شعورنا؟
من جديد الجواب مرعب في مجتمعات غير محصنة وتفتك بها الايدولوجيات فتدار فئاتها الاجتماعية عبر الفضاء الإلكتروني نتيجة بنائها العاطفي الهش القابل للتأثر بكل القضايا العابرة للحدود انها ليست حالة صحية كما يحاول الكثير تجميلها بقولهم نحن شعوب عاطفية وانما هي حالة اجتماعية مرضية تؤشر الى فشل ببناء وعي عام مبني على فهم وادراك علمي لكل قضية فندخل الى مساحة الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيرا أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنة بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق العلمية وهو ما يعرف بعصر ما بعد الحقيقة
نعم تديرنا عواطفنا وايدولوجياتنا في بناء مواقفنا فتجد من الطبيعي ان ينقاد الجمهور ببساطة خلف من يخططون لتدمير مستقبلهم ووجودهم فقط وببساطة لأن عواطفهم وايدلوجياتهم هي المفضلة على الحقائق العلمية ، تلك الايدولوجيا التي يراها جورج لارين ام الكبائر من حيث انها لا تخفي فقط التناقضات الطبقية بل ايضا تخفي اشكال العرقية وصورها العنصرية والسيطرة التي تؤثر على شعوب العالم الثالث!
انه عالمنا البائس الذي تصفه حنا ارندت من خلال كتابها في العنف : ليس العالم الثالث حقيقة، إنه أيدولوجيا وحسب.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock