باريس الشرق.. عن الحداثة الشعرية في بيروت

مشهد للعاصمة اللبنانية بيروت
مشهد للعاصمة اللبنانية بيروت
عمان - خلال منتصف القرن الماضي، وُجدت حركة أدبية من المنفيين والمهاجرين في بيروت الغربية في الوقت الذي كانت فيه العاصمة اللبنانية ملتقى المثقفين العرب من أنحاء البلاد العربية. كانت بيروت الغربية ومقاهي حي الحمرا -ولمدة تصل لعشرين عاما قبل اندلاع الحرب الأهلية- ملتقى الفنانين والمثقفين من أقصى اليسار لأقصى اليمين، التيارات القومية والوطنية، الحداثيين والتقليديين. ونشأت المجلات الثقافية فيها، وكان لكل زمرة ثقافية مقهى خاص، بحسب كتاب الأكاديمي الأميركي روبن كريسويل الصادر مؤخرا عن مطبعة جامعة برينستون. يقول كريسويل أستاذ الأدب المقارن بجامعة ييل إن البنوك المحلية كانت في هذه الحقبة غارقة بودائع بلدان الخليج الغنية بالنفط، ما ساعد على تمويل طفرة في البناء، فتضاعفت المساحة المبنية للمدينة أربعة أضعاف في العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية. وحوّل هذا الصخب الفكري والاقتصادي بيروت إلى نقطة جذب للمفكرين والأدباء من داخل لبنان ومن البلدان المجاورة، وأصبحت مكانا به كل خصائص ما أطلق عليه الناقد الأميركي روجر شاتوك -في دراسته للطبقة الباريسية المبكرة- "المحافظات العالمية" وهي مجتمع انتقائي من الغرباء الذين يعيشون على الهوامش ويتطفلون على الأفكار والإتيكيت والسمات المستوردة من مكان آخر، بحسب كتاب "مدينة البدايات.. الحداثة الشعرية في بيروت". في بيروت أسس الشاعر اللبناني يوسف الخال مجلة "شعر" الفصلية التي كرسها لنقد الشعر والأدب، وصدر أول أعدادها شتاء 1957، وقبل ذلك بعامين كان الخال قد عاد من الولايات المتحدة متأثراً بالشعر الأميركي الذي كان مسحوراً به، وحمل معه فكرة تأسيس مجلة للشعر الجديد سماها على اسم مجلة شعر الأميركية. وبدأ تيار مجلة شعر الذي تجاوز شعر التفعيلة العربي لرؤية حداثية جديدة، واستقطبت المجلة عددا من الشعراء السوريين الهاربين من دمشق بعد ملاحقة السلطات للحزب السوري القومي الاجتماعي ومنهم أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) ومحمد الماغوط ونذير نبعة، وكانت المجلة مركز حركتهم. كان انفتاح المجلة بطبعتها الأنيقة على الأدب الأجنبي والترجمة الأدبية أحد الطرق التي حددت بها "الحداثة" وأصبح لها مراسلون في القاهرة وبغداد وبرلين وباريس ولندن ونيويورك. ومثلت وجهاً أدبياً لبيروت الحديثة مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، إذ صعدت العاصمة اللبنانية كمركز للثقافة العربية بدلاً من القاهرة. وشجعت "قوانين الرقابة الليبرالية" في لبنان الكتاب والمحررين العرب على نشر أعمالهم، ومنهم من هرب من سوريا البعث أو فلسطين المحتلة أو نظام جمال عبد الناصر. وإضافة إلى ذلك استطاع كثير من الكتاب والمحررين الحصول على الرعاية والدعم المادي المقدم من السفارات المتنافسة والحكومات الأجنبية، وأصبح لبنان "مختبر أوتار متعددة ومتضاربة" بتعبير أدونيس. ويدرس كتاب كريسويل هذه الحركة الأدبية الحداثية معتبراً إياها المجموعة الأدبية الأكثر أهمية في العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية، ويرى أن إنتاجها الذي يجمع الجمال الأدبي والتماسك البلاغي هو المشكل للحداثة الأدبية العربية المنفصلة عن الأدب الكلاسيكي والتقليدي. ويتتبع الكتاب التطور التاريخي والفكري لحركة الشعر الحداثي، مشدداً على مركزية بيروت الثقافية في العالم العربي وأهميتها العالمية في تاريخ الحداثة بشكل عام خلال حقبة الحرب الباردة. وتأثرت التقاليد الأدبية اللبنانية بمفكري وأدباء المهجر وبمؤسساتها التعليمية مثل الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية. وكانت الخلفية السياسية المشتركة للشعراء في الحزب القومي الاجتماعي السوري مهمة في تحديد فهمهم الخاص للحداثة، ومع ذلك فإن مفهوم شعراء الحداثة كان من نواح كثيرة نموذجا للظاهرة الدولية التي أعقبت الحرب العالمية. وبعد أن حدد المؤلف المعالم الفكرية والتاريخية للحركة، قام بتحليل لمجموعة من أشعار أدونيس وأنسي الحاج كاشفاً عن تأثير الخلفية الفكرية والسياسية على منطق قصائدهما. ويركز الفصلان الأخيران في الكتاب على أعمال أدونيس الناقدة للجماعة الشعرية التي انفصل عنها العام 1963، وهكذا يبدأ الكتاب بتاريخ جماعي أدبي للجماعة الشعرية الحداثية وينتهي بأعمال شخصية مثيرة للجدل وتمثل التيار. يقول المؤلف إن بيروت لم تأخذ حقها كواحدة من المدن الرائدة في تيار الحداثة الأدبية العالمي مثل باريس ولندن وبرلين وفيينا وسانت بطرسبرغ ونيويورك، وفي هذه المدن أصبحت الحركة الحداثية التي كانت توصف بالراديكالية سابقًا نمطاً مفضلاً للنخب الثقافية، وشكلت عالما من الأعمال الأدبية في أوروبا وأميركا اللاتينية وأميركا الشمالية. لكن في المقابل يرى المؤلف أن مدينة البدايات اللبنانية كانت فيها قراءات متقنة للنصوص الأدبية ومراجعات نقدية عظيمة لم تنل التقدير الكافي وكتبت بالعربية. ويلفت المؤلف النظر لواقعة افتتاح فندق فينيسيا إنتركونتننتال في بيروت بواجهته البيضاء الأنيقة وارتفاعه العام 1961 الذي كان أول فندق في السلسلة خارج نصف الكرة الغربي، وقد صممه إدوارد دوريل ستون المهندس الرئيسي لمتحف الفن الحديث في نيويورك. وساعد البناء في إنشاء الصورة النمطية التي عرفت باسم "باريس الشرق الأوسط" وأصبحت توضع على طوابع البريد. وتعرض المؤلف لسؤال الاستقلال والتبعية في حوارات الجماعة الشعرية الحداثية، إذ تتعارض محاولات الاستقلال الأدبي وشعارات التحرر الثقافي والفكري مع الأهداف السياسية أو أجندة الداعمين. ومع أن المؤلف ينفي أن تكون الجماعة الحداثية الشعرية قد تم دعمها من قبل "مؤتمر الحرية الثقافية" -وهي منظمة واجهة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية دعمت المثقفين المناهضين للشيوعية في جميع أنحاء العالم- لكنه يعتبر أن صدى مبادئها التحررية يمكن العثور عليه أيضاً لدى الحلفاء الغربيين الليبراليين. كما قامت مجموعة "شعر" بوضع مشروع (أعضائها) بقوة في قلب الحياة السياسية والفكرية اللبنانية حتى عندما تظاهروا بتجاوزه أو تجنبه، ويستخدم المؤلف مفهوم "الثقافة غير السياسية" للكشف عن المضامين السياسية الكامنة في أعمال المجموعة الشعرية وأدبها منتقدا وصف المجموعة لنفسها بأنها حركة غير حزبية أو شعرية مهنية بحتة. يعتبر المؤلف أن استثمار الحداثيين العرب في خطاب الإنسان مثال على حرصهم على الانضمام إلى ثقافة فكرية عالمية، وهو ما وضع الشعر العربي في حوار معاصر مع تيارات ما بعد الحرب، ومنها الإنسانيون، ما بعد الإنسانية، الليبراليون، الماركسيون، وغيرهم. وكحركة تركز على أعمال الترجمة، يسلط تاريخ جماعة شعر الضوء على "الحياة الآخرة" للشعر الأوروبي والأميركي أوائل القرن العشرين، ويُظهر تاريخ المجموعة الشعرية أيضًا كيف تُرجمت نسخة من ليبرالية الحرب الباردة إلى لغة وثقافة أخرى مختلفة. وبدا التركيز على فعل الترجمة مفيداً لجماعة "شعر" في تجنب الخلافات الكبيرة حول التقليد والأصالة. ويقول المؤلف إنه لا يمكن فهم الحداثة البيروتية على أنها نسخة من نموذج أوروبي ولا خيانة للعربية وتقاليدها الشعرية. ويأمل أن تقدم دراسة هذه المدرسة الأدبية تاريخياً مثالا ًعلى كيفية انتقال الأفكار بين عالمين وتداولها في مجال ثقافي مختلف. - (الجزيرة نت)اضافة اعلان