بحقوق الإنسان.. لا بالاستبداد!

فقط بسبب أعلام البلدان الثلاثة؛ ألمانيا وهولندا وبلجيكا، تعرف أنك وصلت منطقة حدودية. لكن هذه الأعلام لا ترتفع على مراكز حدودية يتواجد فيها جنود أو حتى رجال جمارك، بل هي تنتصب على الأرض في منطقة "فالسبيرغ"، وتحديداً في بقعة تُعرف باسم "نقطة البلدان الثلاثة" التي يحددها نُصب حجري صغير أمام تلك الأعلام، وُضعت عليه حروف تشير إلى الدول الثلاث بحسب الاتجاه إليها.اضافة اعلان
إزاء سحر طبيعة المنطقة، وبقليل من المعرفة عن عقود، ولربما قرون من الصراع الأوروبي-الأوروبي، سيكون السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو عن سر عدم وجود أي أثر لتلك الحروب الكثيرة جداً! فالسهول المترامية على مد البصر، إلى جانب الغابات التي تكاد تحجب السماء وتغطي الأرض بأوراقها فيما يشبه السجاد الأجمل والأكثر إتقاناً، توحي أن رصاصة لم تطلق هنا، ناهيك عن مرور دبابة! فلا يتداخل معها إلا مطاعم ومقاه وأماكن لعب الأطفال.
هل يُعقل أن الغزاة، ثم المحررين، لم يقتربوا من هذه المنطقة وهي الحدودية؟! أم الأرجح أن السلام المديد الذي تجاوز اليوم سبعة عقود على آخر الحروب، وهي الحرب العالمية الثانية، قد داوى كل الجراح، فلم يبق من أثر لصراعات وحروب الماضي القريب نسبياً، ناهيك عن البعيد؟
لكن الفكرة الأهم التي تُلح على العقل وأنت تتنقل بين البلدان الثلاثة بمسير بضع خطوات، محاطاً فقط بالأشجار والسواح الذين تتعدد لغاتهم وأعراقهم (كما تُظهر ملامحهم)، ودياناتهم (لاسيما بوجود نساء محجبات)، هي فكرة كيف فشل كل الغزاة (أو الفاتحين إذا أردت) في توحيد أوروبا قسراً، وهذه البلدان جزء مركزي فيها، لكنها تتوحد الآن طواعية! بعبارة أخرى، "فالسبيرغ" دليل حي على أن حقوق الإنسان والتنمية تصنع ما عجزت وستعجز عنه أقوى آلات الحروب والدمار! وهي تفعل ذلك مع الإبقاء -أو بفضل الإبقاء للدقة- على كل التمايزات بين الشعوب، والتي ستصبح عندئذ مميزات، تتكامل مع بعضها بعضاً؛ إذ يكاد يكون لكل شعب من شعوب أوروبا لغته، وطائفته، وطبعاً قوميته، وأحياناً كثيرة وطنيته "قُطريته" إن التقى مع قومية شعب آخر.
طبعاً، تظل "نقطة البلدان الثلاثة" استثناء عالمياً، كما يجسد ذلك انتظام السواح في دور لالتقاط الصور التذكارية مع النصب الحجري والأعلام. لكن هذا الاستثناء إذ لا يتجاوز كونه ظاهرة طريفة لمواطني بعض الدول، فإنه بالنسبة للعربي سيبدو مبعثاً لألم لا ينتهي.
فقد احتفينا تاريخياً بالاستبداد صانعاً للوحدة العربية؛ فكانت النتيجة أن أضعنا بـ"فضله" وحده بقية فلسطين وجزءاً من سورية ومصر في العام 1967. لكننا -أو للأمانة فئة هي الأعلى صوتاً والأقل تمثيلاً- لم نتعلم، فبقي الاحتفاء بالاستبداد والفساد، إلى أن وصلنا اليوم حد إضاعة الأوطان الأصغر، كما تجسد ذلك الحال في العراق وسورية وسواهما. بل ويدعي ذات أنصار الاستبداد الآن أنه فقط بالاحتلال الإيراني (كما الروسي) تُحمى الأوطان! أي باعتبارها إقطاعيات الطغاة الفاسدين فحسب، وليست ملاذ شعوبها.