بعد أن أسقطت مصر نموذج رجل الأعمال السياسي

هناك شريحة اجتماعية واسعة ومتنوعة في مصر، كما دلّت التظاهرات والاعتصامات المليونية في ميدان التحرير، تريد الإصلاح والتغيير، ولكن من غير المؤكد حتى الآن إذا ما كان هناك شريحة أخرى ذات ثقل اقتصادي قويّ ومؤثر تريد مثل هذا التغيير، أو لا تعرقل حدوثه. ولعلّ هذا يسلّط الضوء على واحدة من أهم صعوبات مخاض التغيير، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي بأسره. فدروس التاريخ تقول إن التغيير يحدثُ عند التقاء شريحة اقتصادية كبيرة مؤثرة إلى جانب شريحة اجتماعية واسعة من عموم الناس على أنّ من مصلحتهما حدوث التغيير والإصلاح، وإقناع أو إجبار الإرادة السياسية بإحداث التحوّل.

لقد استطاعتْ الهبّة الشعبية في مصر أنْ تُسقط خيار توريث السلطة لرجل الأعمال، كما استطاعتْ أنْ تجعل الشعب شريكاً في السلطة بعد أنْ كان الفرد والمؤسسة العسكرية وحدهما عماد السلطة ومبتدأها وخبرها منذ نحو ستة عقود. لقد أسقط الشباب المتظاهرون في ميدان التحرير منذ ثلاثة أسابيع نموذج رجل الأعمال السياسي إلى حد كبير، وتبيّن للناس، مع هروب الكثير من رجال الأعمال المصريين منذ بدء الانتفاضة المصرية، أنّ كثيرا من هؤلاء الذين دمجوا المال بالسلطة لم يكونوا في غالبيتهم سوى طبقة طفيلية لا صلة حقيقية لها بالمجتمع وتنظر إليه فقط كبقرة حلوب.

منذ ستة عقود بدأت صورة صاحب السلطة في مصر بنموذج الضابط الشجاع الخارج من رحم الشعب، ووصلت في نهايتها اليوم إلى نموذج رجل الأعمال السياسي، الذي أثبتت الشواهد الكثيرة أنه كان في الغالب عقبة كأداء في وجه الحراك الاقتصادي والاجتماعي ومعطّلا لهما. كان هؤلاء، في عمومهم، أثرياء ولم يكونوا برجوازيين وطنيين، أو أنهم كانوا نموذجا لبرجوازية طفيلية تريد مالاً سهلا وثروات سريعة بعيدا عن فكرة الإنتاج وإنعاش دورة الاقتصاد بشكل تراكمي، ومأسسة العمل العام، وجعل الإصلاح الاقتصادي قاعدة صلبة في خدمة أنْ تأخذ الإصلاحات السياسية مداها المرجو بما يعزز التنافسية وتكافؤ الفرص وجعل المبادرات الفردية (وما تتطلبه من عدالة وضمان للحرية الفردية) طريقا نحو الحراك الاقتصادي والاجتماعي.

سيكون عظيما ومؤثرا للغاية لو نجح الحراك في مصر في تقديم نموذج عربيّ أكثر إشراقا لرجل الأعمال الذي يمثّل صورة لـ"برجوازية وطنية" تكون عونا للحراك الاقتصادي والاجتماعي والإصلاح السياسي، نموذجٍ يضع على عاتقه إنشاء المصانع والصحف والمدارس ودعم الفنون والوقفيات والمكتبات العامة والأعمال الخيرية والانتماء للناس والبلد.

اضافة اعلان

ستنجح هبّة المصريين إذا تمكنتْ، عبر الإصلاح السياسي، من فكّ ذاك الرباط الوثيق والعلاقة الزبونية بين صاحب القرار السياسي و"القطط السمان". وستنجح بالفعل حين تكون الإصلاحات السياسية والدستورية لبنة أولى باتجاه تأسيس أعراف جديدة في العمل العام وحكم القانون، ووقف نزيف خزينة الدولة ووضع العراقيل الكثيرة والقاسية أمام الاحتكار والفساد.

[email protected]