بقي 29 يوما من رمضان

ها هو رمضان ينقضي ولم يبق منه سوى تسعة وعشرين يوما فقط على الأكثر. أحب الشهر الكريم منذ أن كان التلفزيون الأردني يبث مسلسل "حذاء الطنبوري" ومسابقة "سَلي صيامك"، أي منذ زمن، لكني بتُ الآن أعرف كل ما سيُقال بشأن رمضان. أعرف الآن كل ما سيقوله السادة علماء الدين ومذيعو البرامج الدينية والخطباء عن فوائد الصيام، وأكاد أسمع ماذا سيقول الأطباء وخبراء التغذية، وأدرك تمام الإدراك والمعرفة حجم الفتاوى التي أعدها المفتون و"أشباههم"، بل أعرف مسبقاً نوعية الأسئلة التي ستأتي من مواطنين تعَودوا أن يوجهوا ذات الأسئلة حول ذات القضايا، فتأتيهم ذات الإجابات بدون زيادة  أو نقصان. وأحفظ عن ظهر قلب شكل البرامج التي ستبثها الفضائيات العربية لتتوافق مع أجواء الشهر؛ المسابقات ولقاءات الفنانين والأجزاء اللامنتهية من مسلسلات وبرامج وأعمال تلفزيونية يبدو أنها أصبحت أيضا من فولكلور الشهر. اضافة اعلان
حضّرت نفسي جيداً للتحلي بأقصى درجات ضبط النفس أمام ازدحام الدواوير، وبوجه أي تلاسن محتمل مع "صائم" يقود على الطريق، أو آخر تثور ثائرته لأنني سألت عن سبب غلاء اللحمة، فيُعلن: "اللهم هو صائم" أنني سأخرجه عن صيامه إذا ما تواصلت أسئلتي "السمجة".
حتى مسؤولو الحكومة أعرف ماذا سيقولون تماماً بعد يومين فقط، وأستطيع ان أكتب بياناتهم القادمة بالحرف "الحكومة تطلب من التجار الالتزام بالأسعار.. وإجراءات لمواجهة غلاء الأسعار".
أعرف أن الأسعار ستزداد ارتفاعاً بعد ذلك، وأحفظ عن ظهر قلب إعلانات رمضان وشكل الإمساكيات وبطاقات التهنئة، وأعرف كل عبارات التهاني التي تحملها رسائل قصيرة على "الموبايل" وكل ما فيها من سجع ولحن وشعر أُعِدّ على عجل قبل سنوات، وما نزال نرسله ونتلقاه.
ثم حَضَّرت نفسي لأن ألتزم بأجواء الملل التي ترافقني وغيري عادةً في مكاتبنا ومؤسساتنا.. الصحيح أنني استعددت لأن أمِلّ منذ الآن. لن أُطيق العمل في رمضان، ها أنا أقولها بصراحة "يا جماعة أي إنتاجية تتوقعونها في هذه الأجواء؟!". سأسمع السؤال التاريخي من كل زملائي كل ساعة "ماذا ستفطر اليوم؟".
لم يتغير أي شيء منذ أن كانت حياتنا بالأبيض والأسود (لم نكن قد تلونا بعد). نفس الوجوه وذات الأدوات والعبارات، والحكايات نفسها. ماذا إذن عن شكل العالم العربي الذي تغير؟ ألم ينتبه أحدهم أن هذه الشعوب العربية التي تغيرت فجأة بعد أن عاش بعضُها أربعين رمضاناً تحت عباءة الظلم، قد تبدلت نظرتها للأشياء، ولم تعد تصدق كل ما يقال لها؟ سمعتُ عن فتوى جديدة استقبلتُ بها رمضان هذا العام، عرفتُ أن مواطناً عربياً اشتكى حر رمضان فسأل أحدَ الدعاة الجاهزين دوماً بكبسة زر "هل يمكنني أن أصوم فصل الشتاء بدلاً عن هذا الشهر بسبب شدة الحر؟"! تعجب الداعية من طرافة وغرابة السؤال، لكنه أطلق فتوى أكثر غرابة عندما أجاز له بدل ذلك أن يقضيَ رمضان مسافراً متنقلاً بين بلاد الله حتى يظفر برخصة الإفطار، وهكذا يتجنب صيام هذا الشهر الحار.. فيعود شعار "ما يطلبه الصائم" ليخيم على أجواء الشهر الفضيل.
كل شيء فينا تغير على مدى الأشهر الثمانية الماضية؛ حواراتنا أخذت بعداً آخر، كما التعبير عن آلامنا ومطالبنا، فصرنا نُعبر عن وجعنا باقتدار وبتنا نقول للغلط "غلط بعينك" من دون خوف ولا تردد.. إلا رمضان القادم لأول مرة والشعوب العربية في مزاج مختلف وعقلية أُخرى لم تتغير فينا. بالنسبة لي توقعت أزمة تسوق حاجيات رمضان ورأيتها كالمعتاد. وعاد إلى ذاكرتي منظر عربات التسوق المُكدسة على أبواب المؤسسات الاستهلاكية الذي أراه عشية كل رمضان.
أُنهي اليوم الأخير قبل الثلاثين من رمضان بصعوبة بالغة، بسبب الحر ولأني لا أجد ما يُخفف عناء هذه الساعات الطويلة، لا على الشاشة ولا في صحيفة تُكرر نفسها في صفحات رمضان منذ سنين طويلة، ولا حتى في حديث عالم أو مواطن. سألتزم الملل والتقلب في فراشي منذ أن أدخل بيتي، ولن أسمح "لجنس مخلوق" في بيتي بالخروج عن الالتزام بالصمت.. والصمت المطبق حتى أُحافظ على صيامي.
الصحيح يا إخوان.. لا جديد في رمضان، في عالم عربي جديد.