قد ننتبه إلى عبَق الأرض عندما يَهمي المطَر الأوَّل، وتنهضُ رائحةُ التراب المُخضلّ.. وربما ننتبه أكثر إلى تقاسيمها ونحن ندبُّ في الدروب شديدة الوعورة، فنخاف أن يصطادنا منها حجر جاسئ، فنتعثَّر.. لكنَّنا كثيراً ما نأخذها -لكثرة ما اعتدنا لمستها على أقدامنا، أو لشدّة غياب لمستها عن أقدامنا- على محمل العاديّ أو الغائب، ونمرّ عليها دون أن نلقي السلام..
أما الموجِعُ جداً، فهو أن تحسَّ بأنك بلا أرض مع وجود كل هذه الأرض.. حتى وأنتَ مُعتقل تماماً باستدارة الأرض، كاملةِ الامتداد، هائلةِ الجاذبيَّةِ، والتي تنطَبقُ على أطرافها من حولِكَ خَيمةُ الأفق.. أن تُحسَّ بأنك معلَّقٌ على اللاشيء.. تحرك قدميك على الهواء الرَّخو، وتناضل بخرَق حتى تستقر على نتوء ما في الفراغ المُراوغ، لكنك تظلُّ تهوي مجدّفاً بيدين ضئيلتين، علّكَ تؤجل احتمالَ ارتطامك بأرض غير مضيافة، لا تتلقفُك برفق أمّ..
من المُوجع جداً، أن تصبح هذه الأرض العَتيقَةُ -أمّنا الأرض، كرتُنا الأرضية- زوجة أبٍ ناشفةِ القلب، أو كرةً شعثاءَ تتدحرج بائسة بين قدمي ولد هائل أحمَقٍ بجوربين أبيضين مخططين بالأحمر، وبسرب من النجوم.. ومن المفجع أن لا يستغني كل هذا العالم عن زاوية تخصّك وحدك، وأن تعيش دائماً في أرض الآخرين، حتى موضع قدميك!..
أما الموجِع حدّ النحيب، فهو أن تعيش غُربتين: غُربَة الغَريب عن الأرض-المكان، المُصادَرة لزوجةِ الأبٍ التي تستبيحُ يُتمَك، أو المحجوزة للولد النَّكد مخططِّ الجوربَين، الذي تركك بلا ملعب ولا طفولة؛ والثانية، غربة الغريب المَشدوهِ المشدودِ إلى أرضٍ خُرافيةِ الطَّبْع، سَماويّةَ التكوين، ظلّوا يصفونها لك في حكايات آخر الليل حتّى أصبحت "ستَّ حُسنِكَ" الشاردةِ، والتي عَلُقَتَ في مفترق الطرُق المحيّر إليها بين "طريق السلامة".. و"طريق الندامة".. و"طريق تودّي ما تجيب"!..
وأنا، عرفت أوصاف "سيدة الحُسن" تلك:
مِن حكاياتِ أبي المذبوحِ بالشَّوقِ
إلى جُمَّيزة تغفو ببابِ البيتِ، أودَعها هَواهْ..
وإلى حَكايا العِشقِ، والبَوحِ المُجرَّحِ في المَواويلِ، وناياتِ الرُّعاهْ..
وَصَبابَةِ السُّمارِ، والنوارِ، والسِّدرِ العَتيقْ..
وشُجيرَةٍ تُرخي ضَيفرَتَها على كَتفِ الطَّريقْ..
وتُفيقُ قبلَ الضَّوء، كَي تُلقي السَّلامَ علَيهِ،
إن سَالَتْ مَعَ الفَجرِ خُطاهْ..
هكذا أعرفُها، من كتُب التاريخ: مَهْدَ النّفَسِ الأوّلِ/ زنّاراً لخَصرِ البحْرِ/ بِدء الأبجَديَّة/ مَوئلاً للشِّعرِ/ مُبتدَأَ العَناصِرِ/ مَهبِطاً للوَحي/ مفتاحاً لسُدف الغَيبِ/ عكّا لا تَخافُ الموجَ/ صُلبان خَلاصٍ/ وحقولاً لزهورِ الدمِّ/ أعشاشَ حَمامٍ/ وزغاريداً/ وأعراسَ شَهيدِينَ/ وجَفْرا/ وقُبوراً للغُزاةْ..
يصعُب كثيراً على المُغرَّب في أرضه -وأكثَرُ على المنفيّ البعيد عن أرضه- أن يكتُبَ مفردة "الأرض" فلا يخنقهُ حَبْلُ النّشيج.. ولا تُذكَرُ الأرضُ إلا وتصحَبُها صفوف من الشاخصات المتَّشحة بشرائطَ سود، والمصلوبة على جَوانب شوارع أعمارنا: "أرض البرتقال الحزين"، "عالم ليس لنا"، "أيها العابرون على جسدي، لن تمروا"... وتنفرش على مدّ الحكاية مشاهد الوحشة، والعَراء والخيام مشلوعة الأضلاع، والترحال، والسهول المثقلة بشقائق النعمان الحمراء النابتة من شقوق جراح الراحلين، وكل ما هو ضدُّ الرُّكون إلى أرض أليفة.
الأرض التي يتذكرها اليوم أولئك المخنوقون في حيّز المنفى الضيق، هي "أرضُ الحكاية" السحرية التي رتبتْ أنحاءها أقاصيص أمهاتنا في هدأة الليل، ليكون وجُهها المُستحيلُ تهويدَة النّوم وسُلطانَ النعاس.. تلك الأرضُ التي تُعاند المعنى لترادف المنفى، والغُربَةَ، واللامكان..
ثمّة على الأرض، في يوم الأرض، مع كلِّ هذه الأرض، أناسٌ من غير أرض.. محكومون بأقدار نبوءة "دانتي" السوداء:
"... سوفَ تُغادرُ كلَّ أثيرٍ لَديكْ:
هوَ ذا أوَّلُ سَهمٍ تُطلقُهُ قَوسُ المنفى..
لَسوفَ تَعرفُ، كَمْ يكونُ مالِحاً مَذاقُ خُبزِ الآخَرين،
وكَمْ يكونُ قاسياً أن تَهبِطَ، وتَصعَدَ، بلا انتهاءٍ، أدراجَ الآخَرين"..!