بناء وجهات النظر والخروج من الانسياق

"عليكم السفر إلى أبعد البعيد. أبعد من الأشجار التي تسجنكم. أبعد من الحاضر الذي يكبلكم. أبعد من الغد الذي يقترب. وعندما تظنون أنكم وصلتم. تعلموا كيف تجدون دروبا جديدة". قسطنطين كفافيس.اضافة اعلان
لا يمكن مواجهة الفوضى في الأخبار والمعلومات والجدل العام وشبكات التواصل إلا بسلوك جمعي شامل في البحث والتأمل الذاتيين لأجل اختيار موقف مستمد من بناء وجهات نظر، ثم الترجيح بينها، وبالطبع فإنها عمليات مرهقة ومعقدة، .. وغير مألوفة أيضا. لكن لا خيار في حالة عدم اليقين والارتباك في كل شيء تقريبا سوى أن نعلم أنفسنا السؤال والبحث عن إجابات، يجب أن نجد أكثر من إجابة وأن نجد لكل جواب مبررات المعقولية والصواب، والحال أن الأزمة ليست في المعرفة والحجج، ولا في مهارات البحث والتفكير، لكنها في قيم التفكير، ففي مقدور الناس جميعا أن يفكروا، لكن التفكير الناقد قيمة إضافية؛ إذ الصواب ليس قوة الحجة أو صوابها، لكنه المحاولة النبيلة والمخلصة لاستيعاب جميع وجهات النظر والإجابات، ومنحها الفرص الكاملة والعادلة في المعقولية، والإدراك المتواصل باحتمال خطأ الذات، حتى التسامح وتقبل الآراء والمواقف يتحول إلى عجرفة وإساءة إذا لم يكن مستمدا من مشاعر حقيقية وصادقة باحتمال صواب الآخر وخطأ الذات، فلا أهمية في الواقع للتسامح والتقبل والتعددية إذا لم تكن محاطة بالاعتقاد باحتمالات الصواب والخطأ لجميع الأفكار والمعتقدات، .. ولأجل ذاته تزيد أهمية الفلسفة اليوم في التعليم والسلوك والتفكير.
ففي حالة عدم اليقين وعدم القدرة على المعرفة والإحاطة العلمية يتراجع العلم وتتقدم الفلسفة، والعكس صحيح أيضا فحين يكون في مقدور الإنسان أن يدرك حقائق الأشياء بالحواس والتجربة تفسح الفلسفة المجال للعلم، لكن حين لا يكون لدينا سوى السؤال والتأمل والبحث المنطقي عن المجهول يكون أيضا ليس لدينا سوى الفلسفة بما هي أيضا كما العلم إدراك حقائق الأشياء، لكن ليس بالحواس كما العلم.
تغمر الفضاء وتقصف العقول موجات وأعاصير من المعلومات والبيانات والأقوال والأخبار بالنصوص والأصوات والصور وبلا حاجز أو عوائق، وفي حين كان الوصول إلى المعلومة مشكلة كبرى فإن الإغراق بالمعلومات صار نفس المشكلة، ففي المحصلة يعجز الإنسان عن المعرفة، أو كالفرق بين الموت عطشا أو غرقا.
لا يمكن مساعدة أحد بالرد والتوضيح حول الأخبار والإشاعات؛ ذلك أنها على قدر من الكثافة والإغراق تجعل من المستحيل تمحيصها إلا بمناعة ومقدرة ذاتية على الاستيعاب والمراجعة، لأنه حتى الرد نفسه لا يخلو من شبهة كونه إشاعة! ولا يحمي الإنسان سوى المهارات والقيم التي يعلمها لنفسه ويكتسبها وحده بلا مساعدة أو وصاية من جهة أو مؤسسة، .. لم يعد في العالم مرجعية سوى الذات، الاستماع إلى الذات هو الأداة المتبقية للمعرفة والحكمة.
لقد مررنا في السنوات القليلة الماضية بتحولات كبرى وعميقة، وفي محصلتها صعد الفرد ليشارك في التفكير والاهتمام بالعالم المحيط، لكنه يتحمل وحده مسؤولية المشاركة، وينشئ وحده مصادره وأدواته في المعرفة والتقييم، لم يعد ثمة مؤسسة إعلامية أو إرشادية يعتمد عليها أو يتبعها، وهي مؤسسات إن بقيت تعمل في المستقبل القريب فإنها تقف على قدم المساواة مع مصادر لا محدودة في عددها واتجاهاتها وأمكنتها ومصالحها وأهوائها. صحيح أن الفرد يصعد بديلا للمجتمعات والمؤسسات لكنه أيضا يتحمل فرديا مسؤولية بناء وجهات النظر والمواقف، ولم تعد تفيده مؤسسات أو مرجعيات.. ليس لديه في هذه المواجهة سوى الفلسفة!