بيانو جدّة سعيد زهرة

تحت شعارات مثل "لن نموت لاجئين" !و"عودتنا حق كبزوغ الشمس، وهل يستطيع أحد أن يحجب الشمس؟"، تستعد مجموعات من الفلسطينيين لعودة، أكثر من رمزية، إلى مدينة صفد، يوم 1 آذار (مارس) 2019. اضافة اعلان
الأصدقاء في فريق "فلسطينيات.. من أجل حراك وطني ومدني"، هم "دينامو" هذا النشاط، وقد سبق ونظموا عشرات النشاطات المشابهة، على امتداد الوطن الفلسطيني، وهو نشاط فيه الكثير من العفوية، بعيد عن المؤسسات البيروقراطية. وفي كل مرة تقريباً، يتحول النشاط لمشاهد وتفاصيل لا تُمحى، وإلى زخم من الحنين والإصرار على العودة الفعلية. فمثلا في ميعار كتبوا رسائل بالعبري والعربي، وذهبوا هناك متغلبين على حواجز الشرطة، وقد أقيمت مستوطنة تسمى "ياعد" على أراضي القرية، وكانوا يريدون إعطاء المستوطنين الرسائل التي تقول هذه ليست أرضكم، ليست لكم. ولكن المستوطنين اختفوا داخل البيوت، حتى صارت الحالة أشبه بمنع تجول، وضعوا الرسائل على زجاج السيارات، ومقابض الأبواب.
في شهر نيسان (إبريل) 2018، كانت مجموعة أصدقاء صغيرة، من فلسطيني الشتات، والأراضي المحتلة العام 1967، والمحتلة العام 1948، تسير في شوارع صفد، "يصدمها" جمال البيوت، وأنها كما هي، إلا أنّها أُعطيت للمستوطنين الإسرائيليين. ولسبب ما تحول جزء كبير من بيوت صفد إلى معارض لبيع اللوحات والرسومات، بما في ذلك المساجد. وجدوا شخصاً يبدو عربياً، يكنُس بيتا فيه أشجار ليمون، ظنوه يعمل هناك. ألقوا التحية عليه بالعربية، طلبوا إذناً برؤية المنزل الذي خصص أغلبه لبيع اللوحات، سألوه ما اسمك؟ قال يعقوب. سألوه هل تعمل هنا؟ قال هذا بيتي. شكّوا؛ هل أنت فلسطيني؟ قال لا، إسرائيلي، ولكن اسمك ولغتك؟ فردّ: أنا من يهود تونس أصلا، جئت صغيراً مع أبي وأمي هنا. قالوا له بما يشبه السؤال، إذا هذا ليس بيتك. ردّ بل أعطتنا إياه الحكومة. سألوه: ولكنْ له أصحاب فلسطينيون، فرد، بل لبنانيون. وجاء "صاحب البيت" (بحسب كلماته)، لرؤيته أكثر من مرة، وبعد وفاته أتى أولاده. بغض النظر أنّ قصة "اللبناني" غامضة، وأنّ الحديث مع يعقوب تَوتَر، بعد اتضاح أين يقف كل طرف، وفشلت محاولاته أن يكون لطيفاً، وأن يبيع لوحة، ولكن الفلسطينيين قرروا "عودات".
في إطار سعي فلسطينيات للعودة "ليوم واحد"، وكما في كل حالة عودة، يبدأ أهالي الأحياء والقرى والأماكن، بالاتصال بهم للمساعدة، والمشاركة. في الطريق إلى صفد، تبدو قصتان، مميزتان، تستحقان التوقف. الأولى، يرويها سعيد، المعروف باسم سعيد صفدي، واسمه الحقيقي سعيد زهرة، ويعيش في حيفا الآن، من مواليد صفد 1944.
كثيرا ما سمعنا عن فلسطينيين عادوا ودقوا أبواب بيوتهم، فَفُتِح، أو لم يفتح لهم، من قبل السُكّان الإسرائيليين. أحياناً يسمحون لأهل البيت برؤيته، أحياناً يعتذرون، أحياناً يطردونهم ويصرخون بهم. ولكن في عام 1965، قررت عائلة سعيد، ومعهم جدته والدة أبيه، أن يذهبوا لمحاولة دخول بيتهم.
ربما لم نسمع عمّن عاد يحمل مفتاح بيته معه. وصلت الجدّة، لم تقرع الباب، بل أخرجت مفتاحه، وأدارته في القفل، ففتح الباب، لتفاجأ بهم، أو يفاجؤوا، بسيدة بدأت تصرخ بالعبرية، من أنتم، ماذا تفعلون هنا؟. واتضح أنّ هذه السيدة رومانية، وفي الجدل ردت أم سعيد أنت، ماذا تفعلين؟ هذه "كنبتي، هذه خزانتي، هذا البيانو لي"، فصمتت الرومانية. وبقي سعيد وعائلته يعودون لبيتهم, سنوياً يقلمون شجر العنب، والإجاص، حتى قبل أعوام قليلة، ليجدوه قد هدم.
أمّا رنا، فصبيّة ولدت في الشتات، عندما عرفت بالنشاط أعادت الاتصال بالمجموعة، وصاروا في جولاتهم التمهيدية، يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي ليبثوا الرحلات لها مباشرة، والمفاجأة أنّ رنا من الشتات، تربط المشاهد بالقصص والأخبار التي سمعتها من أهلها، فتوضح لهم بعض الأمور وتشرحها لهم، وأرسلت رسوماتها لتُعرَض يوم العودة الموعود، ورسوماتها لصفديات وصفديين، في صفد، قبل النكبة.
تكاد قصص عودة الفلسطينيين لبيوتهم، تصبح تكرارا واستنساخا، ولكن الحقيقة أنّ مناطق حظيت بتوثيق أقل من سواها، وصفد وعسقلان من مقدمة ما يحتاج للمزيد من التوثيق، فضلا عن هذا، باتت العودات تأخذ شكلا جماعياً، شبه منظّم، وهو يستحق التوقف والتطوير.