
بيتر هونام* – (مدونة بيتر هونام) 1/7/2020
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
أن تنشُر وتصبح ملعوناً
كانت إحدى أصعب القصص الإخبارية التي شاركت فيها على الإطلاق قصة كشف موردخاي فعنونو لبرنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي.
كانت الآثار المترتبة على فهم هذه القصة أو التعامل معها بطريقة خاطئة، سواء بالنسبة لمسيرتي المهنية الشخصية، أو لصحيفتي، الـ”صنداي تايمز”، ورئيس تحريرها، أندرو نيل.
كان موردخاي قد عمل فنيًا في مصنع سري للبلوتونيوم تحت الأرض بالقرب من مدينة ديمونا الإسرائيلية.
وكان شاهد عيان مباشِرًا على ما كان المرفق يصنعه، بما في ذلك أنوية الأسلحة النووية والمواد الكيميائية للقنابل الاندماجية.
وقد استطاع أن يلتقط، خلسة، الكثير من الصور لمكان عمله والمعدات الموجودة فيه. وكان قد أصيب بخيبة أمل من بلده، وترك الوظيفة وسافر إلى أستراليا، حيث سافرت لمقابلته.
وبعد أسبوعين قضيتهما في التحقق من معلوماته في سيدني، عاد معي إلى لندن حيث كان فريق التحقيقات الاستقصائية الذي يعمل معي يبحث عن الأدلة التي تدعم قصته بشكل تعاوني.
كنا على بعد أيام قليلة من نشر صفحات عدة عن الموضوع عندما اختفى شاهدنا الرئيسي، موردخاي. وقصة اختفائه مروية بالتفصيل في كتابي المعنون “المرأة من الموساد”**.
واتضح لاحقًا أنها قامت باستدراجه من لندن عميلة شقراء للموساد، لم تكن جذابة بشكل خاص، تدعى سيندي.
مُختطَف
مع اقترابنا من يوم النشر، كان موردخاي مقيداً بالسلاسل مُسبقاً في سفينة شحن متجهة إلى تل أبيب، وليس الأمر أننا كنا متأكدين من ذلك أيضًا.
كانت القصة التي ننوي نشرها حساسة للغاية ومحفوفة بالمخاطر لأسباب عدة. لم نكن نتهم إسرائيل بالاستخفاف بلوائح الانتشار النووي فقط، وإنما أيضًا ببناء ترسانة نووية ضخمة أكبر بكثير مما قد تحتاجه لأغراض الردع.
وسوف تُطرح الأسئلة حول دور أميركا في تسهيل حصول إسرائيل عليها. وكانت صحيفتي قد عانت من إحراج كبير قبل وقت ليس ببعيد عندما قامت بنشر يوميات لهتلر، والتي تبين أنها مزيفة.
والآن، كان شاهدنا الوحيد، موردخاي، قد اختفى أيضاً.
كان يوم النشر هو السبت، 4 تشرين الأول (أكتوبر) 1986. وبصفتي الصحفي الاستقصائي الرئيسي، تم اقتيادي إلى الاجتماع الصباحي لرئيس التحرير، حيث وجدت نفسي أدافع ضد الحجج التي يطرحها رؤساء الإدارات في الصحيفة الذين يحثون على تأخير نشر القصة أو حتى قتلها تمامًا.
ولكن، كما أشرت، أضاف هذا إلى القصة. بدا من المرجح أن يكون فعنونو قد اختُطف، وليس كما اقترح أحد مديريَّ بحماقة، في هولندا لقضاء عطلة سريعة.
لكن أندرو نيل، رئيس التحرير، دعمني واتخذ القرار الشجاع بالنشر، مع علمه -في حال كانت القصة صحيحة- برد الفعل السلبي الذي يمكن أن تجلبه -ليس من إسرائيل وحدها فقط، ولكن من الكثير من أفراد المجتمع اليهودي في جميع أنحاء العالم.
أما إذا كانت القصة غير صحيحة، فسيكون ذلك كارثة حقيقية بالنسبة للصحيفة، على المستوى التجاري وعلى مستوى السمعة على حد سواء.
وقد وصف أندرو نيل هذا الاجتماع المشحون في مذكراته، فكتب: “كان المحررون والصحفيون الذين عملوا على القصة حريصين، بطبيعة الحال على المضي قدمًا بنشرها.
لكن آخرين نصحوا بعدم النشر. كان بيتر جينكينز، كبير كتاب العمود السياسي لدينا والرجل الذي يُسند أهمية كبيرة لحكمه الخاص، مصرًا على أن القصة غير صحيحة، وربما كانت خدعة. وقال بنبرة حمقاء محملة بالخطر: “سوف تتقوض سمعة الصحيفة بشكل خطير”.
وأومأ آخرون برؤوسهم موافقين. وتعززت قضيتهم بحقيقة أن مصدرنا الوحيد اختفى في ظروف غامضة، وأن جميع الجهود المبذولة لتعقبه لم تصل إلى شيء.
“نظرت إلى المديرين التنفيذيين وهم يتجادلون فيما بينهم. وكان من الواضح أنه لن يكون هناك اتفاق. “حسنا”، قاطعتهم، “سوف نمضي قدماً بالنشر.
أفرِغوا الصفحة الأولى وكامل الصفحتين الرابعة والخامسة”. وانسحَبوا، بعضهم مستاء بوضوح من قراري: “هذه ستكون يوميات هتلر الخاصة بأندرو”، سُمع بيتر روبرتس، مدير التحرير، وهو يتمتم أثناء عودته إلى مكتبه.
”ولكن، لا يمكنك أن تدير صحيفة كديمقراطية، وأن تقرر الأمور المهمة عن طريق التصويت…”.
وقد نشرنا القصة، وتلقينا اللعنات حقاً من بعض الأوساط، لكن الصحيفة حصلت على دعاية عالمية ضخمة.
وكما قال أندرو: “كان ذلك سبقاً صحفياً عالمياً كبيراً -ليس مدعوماً بنص طويل مفصل فحسب، ولكن بصور فوتوغرافية ورسوم بيانية لما كان يحدث تحت الأرض في ديمونا، مصحوبة برسم ضخم ثلاثي الأبعاد لتوضيح الغرض من كل طابق من طوابق المرفق الستة تحت الأرض”.
بالنسبة لي، بدأ ذلك مهمة استمرت نصف عُمر. في الأشهر التالية، اكتشفتُ ما حدث لموردخاي، وبعد عامين تمكنَّا من فضح سيندي. وقد أصابها الرعب عندما صورتها في غرفة معيشتها في منتجع ساحلي إسرائيلي.
بعد ذلك غطيتُ سوء المعاملة التي لقيها موردخاي على مر السنين، وعدت إلى إسرائيل عندما تم الإفراج عنه بعد ثمانية عشر عامًا قضاها خلف القضبان، معظمها في الحبس الانفرادي. وانتهى بي المطاف (لفترة وجيزة) في زنزانة إسرائيلية. ويمكن قراءة المزيد عن ذلك في مقالتي المعنونة “كيف أفلتُّ من براثن الموساد”.
*بيتر هونام Peter Hounam: كبير الصحفيين الاستقصائيين السابق في صحيفة “صنداي تايمز”، وكاتب عمود في صحيفة “ديلي ميرور”، ومقدم برنامج Despatches على القناة 4، وبرنامج “بانوراما” عن الصحافة الاقتصادية في هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي).
كصحفي مستقل، كتب بيتر العديد من الكتب، وفضح الفساد والخدع ذات الأهمية العالمية. حقق بيتر في حوادث القتل والفساد في بلدان عديدة مختلفة.
وكمسؤول عن عمود “إنسايت” في صحيفة “صنداي تايمز”، نشر قصة موردخاي فعنونو، الذي فضح فيها البرنامج النووي الإسرائيلي.
*نشرت نسخة من المقال في مدونة بيتر هونام تحت عنوان: Mordechai Vanunu
** كتاب هونام بعنوان: The Woman from Mossad: The Story of Mordechai Vanunu and the Israeli Nuclear Program
اقرأ المزيد في ترجمات
لماذا لا تستطيع إسرائيل القضاء على برنامج إيران النووي؟