بيت دجن.. كتابة تعيشها

لطالما سحرتني فكرة أن أعد برنامجاً عن "قصص الكتب"؛ برنامجاً تلفزيونياً بعنوان "قصة كتاب"، أروي فيه قصة كيف كتب الناس كتابهم، أين ذهبوا وتنقّلوا، وماذا فعلوا، وبماذا شعروا، وهم يكتبون.اضافة اعلان
نَصِفُ بعض الكتب بأنّها "كتب تعيشها لا تقرؤها فقط"، وذلك لبراعة الكاتب أو الكاتبة في نقلك لأجواء كتابهم وموضوعه. ولكن رواية قصة كتابة كتاب، تعادل أحياناً أو تفوق، جمال الكتاب.
لم أكن أعرف د. أيمن حمودة. وكان يمكن أن تكون علاقتنا عابرة، بعد أن سمعتُ عن براعته في طب القلوب، لولا كتابه الأول عن بيت دجن. ويوم قرأته كتبتُ عنه، قائلا: "هل من مزيد؟". وعندما بدأت أقرأ كتابه الثاني ""بيت دجن/ يافا.. على طريق البرتقال والنضال"، الذي أسعدني بطلب كتابتي مقدمة له (هذا المقال جزء منها)، قلتُ: "لقد عاش أيمن الكتاب ولم يكتبه فقط"؛ تخيلته كبطل فيلم "منتصف الليل في باريس"، عاد لزمن ماضٍ، قبل قرون، فيشاهد الرّحالة قبل مئات السنوات، يمرون من يافا وبيت دجن؛ في الطريق إلى القدس أو الرملة، ورأيته يَشهد مواسم قطف البرتقال، ويتعلم كيف يلفون الثمر بالورق، بعد أن تحمله الفتيات والسيدات الجميلات للشبان الذين يلفونه ويلقونه لمن يتولون تصفيطه في الصناديق المغادرة إلى أوروبا، وهؤلاء يُسمون "ستافادور".
رأيته يشاهد ما ذكرته سيدة أوروبية عن "الفستق والمشمش واللوز والتوت والرمان والأكاسيا والخروب والتين والزيتون" في بيت دجن.
لو كان أيمن مثل بطل ذلك الفيلم "منتصف الليل في باريس" الذي اقتنع بحاضره في نهاية الفيلم، لتوقف عند الجزء الأول من الكتاب، ولما ذهب لمكتبات العالم، وغادر مؤتمراته الطبية، أو جلس بها في جسده، بينما روحه وعقله في بيت دجن، تاريخاً وحاضراً، بَشراً وبيوتاً وخرائط. لربما اكتفى بأنه نطاسي بارع يأتيه الساعون للشفاء من دول مختلفة.
دخل أيمن بيت دجن مرة (زارها فعلا لمرة واحدة)، ودخلها مرة بكتابه الأول، ولم يستطع الخروج منها، فكان كتابه الثاني.
في هذا الكتاب الكثير من "القصص العادية"، عن حياة أهالي قريته قبل النكبة، وكيف ولدوا، وكيف وأين تعلموا، وعملوا. وقد تبدو القصص لغير أصحابها غير ذات معنى، إلا أننا إذا تذكرنا أنها باتت ذكرى مُحرّمة، ندرك أنها أصبحت حلماً، "فردوسهم المفقود".
تحدثت مع أيمن بعد كتابه الأول، وعرفت عنه قصصاً شخصية. لذا، يصعب أن أطّل على هذا الكتاب وأشاهده في مكتبات العالم يبحث عن بيت دجن، ولا أراه طفلاً ينزل في "السرفيس" من مخيم الحسين إلى وسط عمان؛ لمكتبة أمانة العاصمة يقرأ هناك، وبيت دجن وقصص الأهل عنها تسكنه.
عندما تصبح الذكرى مؤونة حياتنا اليومية (هذه حال أهل فلسطين)، تتحول القصص العادية إلى شيء أسطوري؛ نضيف إليها، أو ننسى منها، قليلا، أو نخلطها ببعضها. وهذا حق مشروع تبيحه قوانين الذاكرة. فمثلا، ما معنى أنّ تتذكر سيدة أنّ والدها كان يشتري البطيخ (بالعشرات)، وتتساءل لماذا يفعل هذا؟ وتسأل: هل كان ذلك للتجارة أو للتوزيع؟ ربما كانت دهشة الطفلة الصغيرة حينها بالبطيخ ومبالغة الأب قليلا بعدده، سبباً لأن يُضّخم العقل العدد، أو أن ينسى تبريراً. ولكن أيضاً حتى والسيدة اللاجئة في الشتات، تروي القصة، لم تقل كل شيء. فعندما كانت تحمل بطيخة للبيت، كانت ترى شجر البرتقال، وتشمه، وكانت الأرض حولها وتحتها خالية من الحجارة خصبة قانية الاحمرار. هذه قصة عادية من الكتاب (فتاة تحمل بطيخة اشتراها والدها في بيت دجن، والآن بات الأمر ذكرى محرمة وأُمنية).
عدا القصص "العادية"، هناك، في الكتاب، عمل بحثي جاد؛ فيه انتقال من البلدة (بيت دجن) للمدينة الأقرب؛ يافا، وطرقها وكيف تطورت الطرق إلى كل فلسطين. وفلسطين كانت منفتحة على العالم، فطبيعي أن يتحدث عن القبارصة والأوروبيين الآتين لفلسطين، والفلسطينيين الذاهبين لقبرص والعالم، وشركات السياحة الفلسطينية في القرن التاسع عشر!.
في الكتاب أيضاً "عولمة البرتقال"، وكيف كانت سبب العلاقات مع العالم، وتتأثر بأحداثه شرقاً وغرباً، وكيف أنّ أهالي فلسطين فكروا في عشرينيات القرن الماضي بجعل البرتقال جزءا من علم بلادهم!
هو سِفرٌ أعده كاتبه بعد سَفَر بالطائرات والمكتبات ولقائه الناس، فكان إنساناً يعيش ما يكتب.