بين الاصلاح والطائفية

  رسالة قوية وجهتها كونداليزا رايس -من الجامعة الأميركية في القاهرة- مضمونها واضح: لا رجعة عن الضغوط الأميركية على النظم العربية للقيام بالخطوات الإصلاحية المطلوبة، فأميركا لم تعد تقبل بالحجج المقدمة لتأجيل الإصلاح خوفا من "البديل الإسلامي"، كما أنها تدعم الإصلاحيين العرب إلى أبعد الحدود.

اضافة اعلان

الضغوط الأميركية المتتالية والمناخ السياسي الجديد شجع حركات المعارضة العربية والقوى السياسية المختلفة على اغتنام الفرصة وإطلاق مبادرات ونداءات وعقدت مؤتمرات عن الإصلاح السياسي، وشهدت الساحة العربية نشاطا سياسيا محموما، فتصدر الإصلاح الأجندة السياسية في المنطقة، وترافق هذا كله مع انتخابات في كل من لبنان والعراق وفلسطين، وبروز حركة كفاية في مصر، ونيل المرأة حقها في الترشيح في الكويت، وانتخابات بلدية في السعودية، ونشاط للمثقفين وجمعيات حقوق الإنسان السورية..الخ.

إلاّ أن مخاض النشاط الملحوظ أدى إلى نتيجة أخرى مناقضة تماما لعملية الإصلاح والديمقراطية والمفاهيم التي تقوم عليها، فقد بدا المشهد العربي وكأنه يتعرض -بأسره- لغزو قادم من التاريخ يستعيد التعبيرات الأولية عن الذات بدلا من التعبيرات المدنية السياسية. وعوضا عن الحسابات السياسية المبنية على الاختلاف في تقدير المصالح والأيدلوجيات بدأت الحسابات الطائفية تبسط نفسها على ساحة التحليل السياسي، ولم ينفك من أسرها رجل دين أو مثقف "تقدمي" ينادي بالديمقراطية والعلمانية. بل إن كثيرا من الكتاب والمثقفين والمحللين السياسيين انتقلت بؤرة قراءتهم السياسية إلى "الطائفة" لتصبح هي "وحدة التحليل" للظواهر السياسية والاحتمالات المستقبلية في المنطقة العربية، في حالة من الاستقطاب الطائفي والإثني "عابرة للأيدلوجيات والقوميات" –كما يصفها عريب الرنتاوي-. 

في العراق، تحولت الديمقراطية الأميركية الموعودة إلى انقسامات وصراعات طائفية وتصدر رجال الدين الشيعة والسنة المشهد، وغابت كل الأيدلوجيات والأفكار التنويرية والتقدمية خلف المصالح والانتماءات الطائفية، حتى "حركات المقاومة" اتسمت بصبغة طائفية، واكتست لغة الساسة والمثقفين الأميركان والغربيين عن العراق مصطلحات ومفاهيم قائمة على الإثنية والطائفية، وتحول مشروع إعادة بناء العراق من "الديمقراطية" إلى إدارة الصراع الطائفي والإثني واسترضاء الشركاء "الخصوم" في الوطن من خلال "مبدأ المحاصصة". أما إذا فشل الأميركان في العراق فلن نكون أمام انتصار وطني وإسلامي ساحق، بل أمام مستقبل مهدد بحرب أهلية بين "البشمرجة" و"ميلشيات بدر" و"الجيش الإسلامي" و"جماعة الزرقاوي"!

وفي لبنان، انقلب ربيع الديمقراطية إلى حسبة طائفية وعرقية ودينية، وغابت كل معايير الكفاءة والمواطنة والأفكار الإصلاحية والسياسية ليرتدي لبنان مرة أخرى ثوب الطائفية، في حين لم تكتمل فرحة السودانيين بالاتفاق بين الحكومة وبين انفصاليي الجنوب بقيادة "جون قرنق"، حتى برزت مشكلة دارفور في الغرب والصراع العرقي فيها، في الوقت الذي بدأت مشكلة المركز والأطراف تطرح نفسها على منطقة كسلا والشرق السوداني، بينما تحرك الأكراد السوريون والعرب في الأهواز الإيرانية، وعادت قصة الأقباط والمسلمين في مصر، كما أخذت مخاوف دول الخليج طابعا جديا من قضية "الأقليات الشيعية".

في العقود السابقة كان "القوميون" و"الإسلاميون" يطالبون بالوحدة ويرفضون فكرة الدولة القطرية ويصفونها بـ "دولة التجزئة"، أما اليوم فتبدو "الدولة القطرية" مكسبا كبيرا يجب الحفاظ عليه أمام "القوميات الطائفية" التي تهدد المنطقة!. قد يكون منير شفيق محقا أن الدولة القطرية ولدت مأزومة وأن ما نراه هو محصلة أزمتها، لكن نار الدولة القطرية ولا جنة الطوائف والإثنيات، ويبقى السؤال عن الإصلاح قائما: هل هو تغيير السلطة وانتخابات وأحزاب أم عملية متكاملة تاريخية تصيب المجتمع والثقافة والاقتصاد بذات المقدار؟