بين الصلاح والتقوى

د. هاشم غرايبة

كثير ما يجادلك الذين لا يقتنعون بأن المنهج الإسلامي هو الخيار الأمثل للخروج من مأزق أمتنا الراهن، فيقولون: هذه اليابان وكوريا والصين لم تتبع الإسلام، ونجحت في النهوض وأصبحت من الدول المتقدمة.اضافة اعلان
من الصعب الرد على هذه الحجة بمقارنة الواقع الحالي غير العادل، لكن ربما يحتاج الأمر الى تمهيد مستند الى العودة الى جذور الأسباب التي تصنع تخلف أو تقدم الشعوب.
الفرد البشري يخلق على الفطرة، أي هو صالح من حيث المبدأ، بدليل أن النفوس تميل الى الصدق والإخلاص، وتحب الخير وتحترم فاعليه، وتكره الشرور وتذم فاعليها.
الإعوجاج تصنعه الظروف الخارجية الموجهة وتتحكم به عوامل كثيرة، لكن الدافع الأساس إليه هو متطلبات "الأنا" الغريزية، فهي التي تحدد الإحتياجات والمصالح، والتي عندما تتصادم مع مصالح الغير بفعل الطمع والرغبة بالإستحواذ الإحترازي على ما هو زائد عن حاجات الفرد المباشرة، تحدث الخلافات والنزاعات، ويقع الظلم.
هكذا وعندما تنتقص حقوق الآخرين يلحق الضرر بمصالحهم، فينتقل الضرر الى المجتمع المحيط، ويتوسع بمقدار حجمه وقسوته، وتحدث ردات فعل ضارة بالنسيج المجتمعي، أعمق ربما من الفعل الضار ذاته، بما يشبه ضرر الهزات الإرتدادية الناجمة عن الزلزال.
نستنتج أنه لتحقيق صلاح المجتمع يشترط صلاح مجموع أفراده، أو على الأقل الغالبية العظمى، لكن لفساده يكفي بضعة أفراد فاسدين.
إن الصلاح الفردي والمجتمعي تبادليان، بمعنى أن كلا منهما يؤدي الى الآخر، فصلاح الأفراد ينتج مجتمعا صالحا، والمجتمع الصالح ينتج أفرادا صالحين لأنه عادل يضمن حقوق الجميع، فلا ظلم فيه يستوجب الرد.
إذا فالعوامل التي تدفع باتجاه الصلاح الفردي هي اثنان: فطري أولا، لكنه ضعيف لا يمكنه التغلب على المصلحة، واجتماعي ثانيا تفرضه أعراف وقوانين المجتمع الصالح، لكنه ظرفي ونسبي.
وعليه فإن تحقق الصلاح الفردي مقيد ومحفوف بالمصاعب، فكان لابد من داعم معزز قوي، لذلك أنزل الله الدين على البشر، ويعالج هذا المتطلب من شقيه: الصلاح الفردي ويتحقق بالإيمان بالله وأن إليه المصير، فمن يعمل خيرا يجد عنده الثواب ومن يعمل شراً يلقى جزاء وفاقا لما اقترف.
كما يحقق الصلاح المجتمعي عندما توجد سلطة حاكمة مؤمنة يختارها المحكومون وفق شرع الله، لكي تكفل الإلتزام بتطبيق تعليمات الشارع الحكيم، لضمان الإيفاء بحقوق الأفراد بعدالة ومساواة.
هكذا نتوصل الى أن المجتمع الصالح (المدينة الفاضلة) الذي بحث عنه الفلاسفة عبر العصور، ولم يجدوه لأنهم أغفلوا العلاقة التبادلية المتلازمة بين الصلاحين الفردي والمجتمعي، والذي لا يحقق بغير دافع قوي ورادع لا قبل للفرد بدفعه.. هذا هو التقوى بشكل مبسط.
التقوى يأتي من الإتقاء أي الإحتماء من شيء، ولما كانت أقوى الدوافع في النفس البشرية هي الخوف، وتتفوق كثيرا على دوافع الرغبة والشهوة، لذلك كان الخوف من غضب الله، هو الضابط الأمثل للسلوك البشري، وهو بلا شك أقوى من دافع الطمع بنيل ثوابه.
لقد شاءت إرادة الله ان لا يكون مرئيا، حتى يكون الإيمان به عقليا وبالقناعة الوجدانية، وليس بالمدركات الحسية، وإذاً لآمن كل البشر، فمن سيجرؤ على إنكار قوة قاهرة جبارة يراها أمامه؟، لكن الإيمان بالغيب هو لامتحان النفوس، فيميز الخبيث من الطيب، كما أنه لم يعجل بعقوبة المسيء ولا بمكافأة المحسن، وإذاً لبطل الإبتلاء والتمحيص.
لذا فالتقوى لا تنبني إلا على الإيمان بالله واليوم الآخر.
لو افترضنا أن من يقودون سياراتهم في بلد ما، بلغهم أن الطرق جميعها تحت مراقبة الأقمار الصناعية، والتي تراهم ولا يرونها، ولا يمكن لمركبة أن تفلت منها، ستجدهم جميعا ملتزمين بقواعد السير لا يحيدون عنها، ولن تجد مخالفاً واحدا، لو بحثت عن الدافع لهذا الإنضباط لن تجده عائدا الى وعيهم ولا حسن أخلاقهم…بل للخوف من العقوبة!.
هنا يمكننا الإجابة على السؤال الأول: لماذا أمكن لأمم النهضة والتقدم من غير الإسلام، فما الذي يمنعنا أن نحذو حذوهم ونتقدم مثلهم!؟.
تقدم الأمم لا يعني بالضرورة صلاح مجتمعاتها، إذ أن قياس ذلك كان بمقدار القوة العسكرية وتحقق الاستقلال الاقتصادي وامتلاك التأثير في الاقتصاد العالمي.
من يبني بناء رائعا جميلا لإقامة عروض سيرك، تقدم فيه عروض مدهشة للوهلة الأولى ثم يملها الجمهور فيقل رواده وينتقل الى مكان آخر، لذلك يكون البناء بلا قواعد ولا أساسات بل مؤلفا من قطع تفك وتركب.
أما من يريد أن يبني جامعة فلا تكون خيمة، بل بناء راسخ له قواعد راسخة في الأرض، لأنها ستبقى لكل الأجيال القادمة.
هكذا هو الفارق بين نهضة حضارية مبنية على الصلاح القائم على مرتكزات العقيدة، وتلك القائمة على أسس التفوق الآني وتلبية الإحتياجات الطارئة، لذلك دامت الدولة الإسلامية ثلاثة عشر قرنا متصلا، فيما قامت الامبراطوريات الأخرى على أساس التفوق العسكري لفترات متفاوتة أطولها الدولة الرومانية دامت ستة قرون، ثم زالت عندما انتهى تفوقها العسكري، لتستبدل بأخرى.
النهضة الحضارية الاسلامية ارتقت ودامت لأنها انسانية، هدفت لرفع قيمة الإنسان مهما كان عِرقة وانتماءه، بينما الحضارات البشرية الأخرى جميعها كانت قومية الدافع، تهدف لارتقاء أمة بعينها على حساب الأمم الأخرى.
لم يكن زوال الدولة الاسلامية بسبب فشل العقيدة بالإيفاء بالإحتياجات المستجدة ولا لنشوء عقيدة بديلة أكثر صلاحا، بل لتقصير النظام السياسي بالوفاء بمتطلبات العقيدة، والعقيدة هي المركبة التي تحمل الأمة الى غايتها، ومتطلباتها فقط هي العزيمة التي هي بمثابة الوقود الذي يحرك المركبة.
نحن بحاجة الى النهضة، ومن السهل أن نبني على القواعد والأعمدة القائمة، وذلك أسرع وأفضل بكثير من هدم الأسس والبدء بالحفر لبناء قواعد بمواصفات لن تكون أفضل بلا شك.