بين العبث واللاجدوى


في الثقافة العامة، لا فوارق تذكر بين المفردتين في العنوان أعلاه. مع ذلك، بحثت في قاموس المعاني عن المشتركات والفوارق الفلسفية بين العبث واللاجدوى، لعلني أجد مدخلاً ملائماً لما عزمت أمري على تناوله في هذه الإطلالة المكرسة لتشخيص حس ثقيل بدأ ينتاب كثيرا من المشتغلين في المجال الفكري والسياسي، إزاء ما تبثه وسائل الإعلام، يومياً، من مشاهد وأخبار، تراوح بين العبث واللاجدوى، في طول البلاد العربية وعرضها.اضافة اعلان
قبل الخوض في غمار هذا الموضوع، يجدر التذكير أن العبث هو عمل بلا طائل وبلا فائدة، أو قل هو تصرف غير منطقي، يعكس فقدان القدرة على تقدير الموقف، ورؤية الأشياء بحجمها الطبيعي، وصعوبة فهم العالم المحيط بشخص ضائع، لا معنى لسلوكه في الحياة، ولا مضمون لأفكاره. فيما اللاجدوى تعبر عن خيبة الأمل وانقصاف الرجاء، وقد تفضي بصاحبها إلى اليأس والتسليم والانكفاء، تحت وطأة الشعور بأنه لم يعد في الحياة ما يستحق أن يضحي الإنسان في سبيله.
وأحسب أن كثيراً من المشاهد والوقائع التي تداهمنا آناء الليل وأطراف النهار، وتستبد بالمخيال العام، قد أدخلتنا عنوة إلى منطقة عديمة الرؤية، تراوح بنا بين الشعور بعبث ما يجري حولنا، وبين الحس باللاجدوى التي تفيض من هذه الخطابات والتنظيرات والسجالات، المبررة لكل هذا الاقتتال والخراب، والمسوّقة لكل هذا الفيض الهائل من سفك الدماء، إلى حد تضاءلت فيه القدرة على التحمّل، وعزّت فيه الطاقة الفكرية على المواجهة مع ما يبدو متعارضاً مع منطق الأشياء.
    ولعل السؤال الذي يزن ذهباً من عيار أربعة وعشرين قيراطاً، هو أين تكمن علّة العلل المتسببة في كل هذا الموت الزؤام في العراق واليمن وبلاد الشام وغيرها، إن لم يكن جذرها ضاربا في عمق تراث مديد، وتربة اجتماعية لا تقيم وزناً لحياة الإنسان، وتبخس الحق في التمتع بالعيش في الدنيا الزائلة، لصالح جماعات ثيوقراطية تلعب بعقول الناشئة بالأوهام والخرافات، وتحثهم على الاستعجال في طلب الموت، باعتباره الطريق الأسرع للفوز بالجنة؟
في المقابل، هناك أنظمة أوتوقراطية مخادعة، نجحت في الخلط بين الاستمرار في الحكم وبين الحفاظ على الوطن، وجعلت من بقائها رمزاً يعلو فوق أي اعتبار آخر، بما في ذلك الاستقلال والحرية والسيادة، وغير ذلك من التعبيرات التي يمكن وضعها على الرف إلى حين قد يطول، طالما أن أي شيء يصغر إلى حد التلاشي، إذا كان ذلك في مصلحة مستبد لا يرى أبعد من كرسي الحكم، ولا يستمع إلا إلى ما يوافق هواه، حتى وإن كان محصلة ذلك خراب البلاد وتشريد العباد.
وقد يكون ما جرى ويجري في سورية مثالاً عملياً، يرى بالعين المجردة، على ما نحن بصدده في هذه المطالعة السريعة. إذ بمعزل عن الادعاءات والمزاعم والمسوّغات، كثيراً ما يسأل المرء نفسه: ما هو الشيء الذي يستحق كل هذا الموت بالجملة، وكل هذا الخراب الذي يجلّ عن الوصف، وكل هذا الاقتتال حتى النفس الأخير؟ هل هو الصراع على السلطة حتى لو كانت مجردة من كل اعتبار أخلاقي؟ وأي بلاد ممزقة ومدمرة إلى هذا الحد الجنوني، تستأهل التربع فوق كومة من الخراب العظيم؟
ولا يشذ العراق عن مثل هذه الاستنتاجات، بعد أن باتت أعداد السيارات المفخخة في بغداد تزيد على حوادث السير، وصارت المجازر اليومية تحتل ذيل قائمة أخبار الاعلام العراقي. كما ينطبق الأمر ذاته على اليمن، الذي تحول الى موطن للفقر وداء الضنك والموت والكوليرا والجوع، وقل الشيء نفسه عن ليبيا المتخبطة في دماء أبنائها منذ نحو ست سنوات، والحبل على الجرار.
ومع أن هناك أمثلة في غزة والسودان والصومال، إلا أن ما سبق ذكره يكفي للافتراض بأننا نعيش حالة بلا معنى، متراوحة بين العبث واللاجدوى. فبعد كل هذا التطاحن على اللاشيء، لم يعد هناك ما يستحق أن يبذل الإنسان أو يضحي في سبيله، خاصة وأن حصاد السنوات القليلة السابقة، قد يكون أهون شراً من حصاد السنوات الطويلة اللاحقة، والعياذ بالله.