تجربتي مع مباحث أمن الدولة في مصر

...شيء عنيف يهزني وجسم صلب يطرق رأسي. أصحو فزعا وأفتح عيني على فوهة مسدس مصوبة نحوي ووجه عابس يحدق بي، وحوله مجموعة من العساكر والمخبرين. وقبل أن أتيقن أنني في حلم أو في علم، ينهرني بصوت صارم وضغطة بفوهة المسدس "صحّي اللي جنبك".. بجانبي حسين عبدالغني الإعلامي الكبير، رئيس نادي الفكر الناصري في جامعة القاهرة آنذاك، ومحمد حماد مدير تحرير جريدة العربي "الحزب الناصري".

أيقظت حسين، وأول ما نطقت باسم حماد وكأن الرجل قد أصابه مس من جنون.. صرخ بصوت مرتفع "هو ده حماد الشيوعي؟ إحنا عايزينه من زمان"، وانتزعه بقوة من الفراش ووجه له لطمة شديدة، تمنيت معها أن تُقطع يده، أو أن تكون اللطمة لي بدلا من حماد بجسمه الرقيق والنحيل.

مجموعة أخرى من العسكر والمخبرين أحضروا صالح أبو سمرة وكمال أبو عيطة من الغرفة الثانية. وجود صالح وكمال ساهم في امتصاص لحظات الصدمة، فصالح رجل صلب ليس أقل "من جلمود صخر حطه السيل من عل"، طيلة معرفتي به لم أره مترددا في أمر أو مرتبكا أمام مفاجأة، كما أن حضوره كان دوما باعثا على الاطمئنان، رجل متماسك وواسع الحيلة، يعني بالعامية "عُمدة". وأما كمال، فما إن دخل الغرفة حتى صرخ بصوت مرتفع "كده يا حماد تطلع شيوعي من ورانا؟ شايف يا جمال". وكان هذا كفيلا بخلخلة الموقف المرعب.

أمهلنا الضباط بضع دقائق لنلبس، وقاموا بتفتيش البيت، ومن ثم اقتادونا للخارج لنفاجأ بالعدد الكبير من الجنود على الدرج وفي الشارع.

أول محطة لنا كانت مبنى مباحث أمن الدولة في شارع جابر بن حيان في الدقي. سألني الضابط عن علاقتي بتنظيم اسمه التنظيم الشعبي الناصري.. أجبته إنني لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع. حينها نبهني إلى أنه يعاملني باحترام، ونصحني بالتجاوب لأن هذه ستكون آخر لحظات أُعامل فيها باحترام، وبعدها "سيخُرّْ مني الكلام كما يخر الماء من الصفيحة المخرومة"، قالها وأنزلني "للتخشيبة". هناك كان الجميع موجودين إلا من في التحقيق، وكانوا قد أجلسوا بين كل واحد منا والآخر مخبرا وعسكريا.

فجأة أرى أمين اسكندر يدخل التخشيبة مخفورا، يجلسونه قريبا مني وبيني وبينه مخبر، وأول ما جلس قال لي: ممكن نتعرف؟ الأخ منين؟ وذلك قبل أن ينهره المخبر. أمين هو الآن رئيس حزب الكرامة المصري، شخص لامع، حاد الذكاء واسع الثقافة، مفكر من طراز رفيع بعقل مستنير وذهن متقد، كما أنه رجل سريع البديهة، أراد أن يفهمني أنه سينكر معرفته بي وكذلك أن أُنكر معرفتي به، كان أمين وقتها في القوات المسلحة، لذلك فإن التحقيق معه سيأخذ مسارا مختلفا، فقد درجت العادة في ذلك الوقت ألا تسمح القوات المسلحة لأي جهاز أمني بالتعامل مع منتسبيها.

دقائق وأُدخل للتخشيبة شاب يافع هو شقيق كمال أبو عيطة الأصغر، وقتها انفعل كمال بشدة وهاج وماج لأنه لم يطق أن يرى أخاه مسجونا بسببه، سيما وأنه كان يستعد لامتحانات الثانوية العامة. وفي سورة غضبه الشديد، أخذ كمال يهدد الجميع بأن خاله لو عرف ما يحدث لقلب الدنيا "وودى الجميع بداهية". جاء أحد الضباط مسرعا وسأل كمال: هو خالك مين؟ فأجاب كمال خالي شاويش مطافي!

هكذا هو كمال منذ عرفته طالبا وحتى أصبح القيادي العمالي والنقابي الأول في مصر، أو كما يسميه العديد من المصريين "مؤذن الثورة"، ابن بلد أصيل، شهامة ورجولة، مثابرة وإصرار لا يلينان، إلى خفة دم ووفاء منقطع النظير. ولا أنسى السنة الماضية حين مرض صديقنا وأخونا المرحوم محمد أبو سمرة "أبو ناصر" شقيق صالح وتدهورت صحته، ترك كمال عمله وجاء من مصر للأردن وبقي بجانب أبو ناصر طيلة فترة مرضه.. يرافقه في كل زيارة طبيب.. "عِتْرة" بكل معنى الكلمة.

بدأنا نلاحظ بعض الجلبة وكأن شيئا ما سيحدث. أُخرجنا من "التخشيبة" ووضعنا في سيارة أمن مركزي كبيرة مقفلة فيها ضعفان وربما ثلاثة أضعاف عددنا من الجنود المسلحين، وبدأت قافلتنا في الرحلة شديدة الحراسة.. ولم نكن نلحظ من الفتحات الصغيرة إلا معالم بسيطة وعربات المرافقة والحراسة المدنية والعسكرية.

نبهنا محمد حماد أننا في الطريق إلى سجن القلعة، ذلك المعتقل الرهيب أو باستيل مصر. التقط كمال الكلمة وبدأ يغني: "اتجمعوا العشاق في سجن القلعة اتجمعوا العشاق بباب الخلق..". اندمج الجميع بالغناء ما عدا محمد حماد الذي كان ساهما.. شارد الذهن. حماد كان قد سبق له أن سُجن في القلعة، وهو الوحيد الذي كان يعرف فعلا ما يعنيه الأمر وما ينتظرنا هناك، كان أكثرنا خبرة ومعرفة، فقد عانى شظف العيش، له تجربة نضالية متنوعة وعميقة، لديه رؤية نافذة وحُكم متبصر ورأي سديد وقلب جامد يعني بالبلدي المصري راجل "عُقر".

وصلت العربة سجن القلعة مع بدايات المغيب. ساحة يتجمع بها عدد من عساكر الأمن المركزي تفضي إلى باب مكتب صغير به ضابط متعجرف عاملنا باحتقار وازدراء شديدين وهو يأخذ ما في جيوبنا وساعاتنا..الخ. الجهة الثانية للمكتب تفضي إلى باب صغير فُتح فجأة وبعنف وبرز منه شخص ضخم قاسي الملامح، يرتدي بنطالا عسكريا مع قميص داخلي (شباح)، وبدأ يأخذ كل واحد منا على انفراد. ولما جاء دوري، أدخلني من الباب الصغير ثم صفقه بقوة كما فعل مع من هم قبلي، وقام بشد يدي إلى الخلف وقيدهما بشادر مبلول، ثم وضع غطاء على رأسي يحجب النظر. بعد ذلك بلحظات شعرت بصدمة هائلة على رأسي من الخلف وصوت يصرخ "إجري.. لسه واقف يا... يا ابن..."، وضربة أخرى وثالثة.

بدأت بالركض من دون وعي معصوب العينين مربوط اليدين.. وكلما تعثرت أو وقعت (طبعا لم يكن ينبهني إلى وجود درج أو انعطافة) أشعر بثقل البساطير على رأسي وجسمي مع الصراخ والشتم "قوم يا...". أخيرا، أوقفني الرجل ثم فك يدي، وبعدها نزع العصبة عن رأسي ودفعني إلى داخل غرفة ستكون مقر استضافتي، غرفة موحشة مرتفعة السقف، جدارها سميك يبلغ حوالي نصف متر في أوله باب حديد على شكل قضبان ثم باب خشب محدد أصم به فتحة صغيرة تتسع لإدخال سيجارة.

شعرت بالراحة حينما أقفل الرجل الباب وذهب، على الأقل وقت مستقطع. ما إن تأقلمت عيناي مع نور الغرفة حتى بدأت ألاحظ أن الحائط مليء بالكتابات والأيام والأشهر، كأنه مجلة مفتوحة. تعطيك الكتابات ألفة وقوة وحميمية تشعرك أنك لست وحدك.. وأن هذا ليس نهاية المطاف. ومن أروع ما كان مكتوبا على حائطي "أخي الجديد.. أنت هنا لأن كل من كانوا هنا قبلك قد خرجوا، لا تخف، وكن رجلا".

فجأة يتمزق السكون بصوت صراخ رهيب وكأن أحدا ما يذبح أو يُمَزّق حيا. أحاول أن أتعرف على الصوت.. هل هو صالح.. حماد.. حسين.. كمال.. لا أستطيع التمييز. وأحاول إقناع نفسي أن هذا ليس صراخا حقيقيا وإنما صوت مسجل للتخويف والإرهاب.. لم أحتج لكثير من الوقت لأعرف أن هذا ليس صوت مسجل، وإنما صراخ حقيقي لأنني سأصرخه شخصيا بعد دقائق.. حيث يأتي أحدهم يقيد يدي إلى الخلف ويضع العصبة إياها ويأمرني بالجري حتى أصل غرفة التحقيق الذي يتم والأعين معصبة والأيدي مقيدة وتحت الضرب والشتم والإهانة. مع كل جواب يراه "البيه" غير لائق لطمة أو ركلة أو إيقاع على الأرض وكان الضرب يأخذ منحى تصاعديا، وحين يتيقنون أنك انهكت تماما يعيدونك إلى الغرفة ويلقون بك على الأرض كخرقة بالية.

تطور التعذيب في الأيام التالية إلى مراحل أصعب، حيث كان التحقيق يتم وأنا معلق من يدي المكبلتين خلف ظهري، في حين يتعامل معي المحيطون ككيس الملاكمة ضربا وركلا وتحريكا كالبندول، حيث ينتقل مركز الثقل في كل مرة إلى كتف من الأكتاف مما يخلق ألما شديدا ينتهي بخدران شديد ثم فقدان الإحساس وشبه غيبوبة.

طبعا في كل مرة أسلوب، كأن يقولوا لك إن أصحابك اعترفوا عليك وغدروا بك وأنت ما تزال تعتقد أنك تحميهم "عاوز تعمل راجل"! أو تهديد مثل "أنت شفت إحنا لا سجلنا اسمك ولا ليك ملف.. يعني إنت مش موجود ومش عندنا.. لو نفخناك ورميناك بالزبالة محدش حيعرف إيه اللي حصلك".. وهكذا.

كانت صداقتنا وأخوتنا كفيلة برمي كل ما يقولونه بالزبالة.. كما أن الأسئلة لم تكن توحي بأي شيء مصدره أي من الأصدقاء، وكانت كلها مبنية على كلام مخبرين وافتراضات وتلفيقات لا توحي بمعرفة جدية.

في إحدى المرات وقد اشتد بي الألم من التعليق، والغيظ من الشتم والإهانة ووصف الأم بأقبح الصفات، لمحت من تحت العصبة -حيث تتوفر فتحة خفيفة بين الأنف والعين وبالذات حين ترفع رأسك وتدفعه للخلف- أحد الذين يضربونني، فقمت بركله بقوة. صرخ بشدة "بتضرب يا كلب"، ثم انهالت علي المجموعة بالضرب وتعلق بي أحدهم. ولم تقو أعصاب يدي وكتفي على حمل الوزنين، وجُرح عندي العصب الرئيسي (brachial plexus) على الجهتين، حيث أصبت بعدها بالشلل في ذراعيّْ، وأصبحت غير قادر على تناول الطعام والشراب إلا مثل الحيوانات بالركوع ووضع اللسان على الطبق ولحس الطعام، وصارت العناية بنفسي صعبة جدا، وكنت أُقل من الأكل وعلى الأغلب لا آكل حتى لا أضطر للرحلة المهينة إلى الحمام. ولعل من أقسى الأشياء أنني كنت غير قادر على إبعاد الصراصير التي كانت تتجمع على جسدي الرطب الخامل تلعق الجروح والتقرحات والدم والعرق بعد كل جلسة تحقيق وتعذيب.

مع الوقت صرت أعرف عدد الخطوات المؤدية إلى كل مكتب، وأميز أصوات المحققين والمرافقين، وكذلك تقدير الوقت بشكل نسبي. كما صرت أحاول أن أتعامل مع إصابتي بحيل مختلفة.

ذات ليلة بلغت القسوة أشدها، وأجبرني الحرس على البقاء طول الليل واقفا حتى وأنا في الزنزانة وحدي، ثم اقتادوني كالعادة إلى التحقيق. أول ما دخلت الغرفة سمعت صوتا جديدا ينهر بقوة وسلطة "ايه ده.. فكوه..". فكوا القيد ونزعوا العصبة عن عيني، فظهر أمامي رجل "أُبَّهة" تبدو عليه ملامح السلطة والنفوذ. نظر إلي وقال بنبرة حازمة: "اقعد يا جمال.. تشرب إيه؟"! ثم فجأة دخل الضابط الذي اعتقلنا وأدى التحية، وقال: "كل شيء تمام يا فندم"، وانصرف، كانت تلك بلا شك إشارة إلى أهمية الرجل الجالس خلف المكتب والذي تحدث بنبرة هادئة وحازمة، وبلغة مهذبة تخلو من أي شتيمة لكن لا تخلو من تهديد، بأنني في وضع سيئ جدا، وأن تهمتي كبيرة وثابتة باعتراف الجميع، وأنني ما زلت فتى صغيرا (20 سنة)، وقد يكون أمامي فرصة لمستقبل غير السجن طوال عمري إذا ما أقريت بذنبي، وبما كنا نريد أن نفعله أنا وزملائي بالتنظيم. وحين أجبته بأنه ليس هناك شيء أقوله، قال لي: هذا اختيارك وعليك أن تتحمل مسؤوليته. ثم أرسل في طلب أحد المخبرين وأمره بإرجاعي للزنزانة منبها عليه ألا أضرب أو تعصب عيني أو أقيد وهو ما حدث فعلا.

اضافة اعلان

كانت تلك آخر ليلة تحقيق في عهدة مباحث أمن الدولة، حُولت بعدها إلى النيابة العامة التي أمرت بتحويلنا إلى سجن الاستئناف-باب الخلق، ثم إلى الطبيب الشرعي الذي تصرف بأروع ما تكون المهنية والنزاهة، حيث صور الإصابات والتقرحات، وثبت الشلل وواقعة التعذيب بكل تفاصيلها، وكتب تقريرا مفصلا يثبت واقعة التعذيب ليحرك ربما أول قضية تعذيب رسمية ضد مباحث أمن الدولة. بعد ذلك انعقدت محكمة أمن الدولة العليا للنظر بتهمة "الشروع بتكوين تنظيم يهدف لقلب نظام الحكم"، وهي تهمة اعتبرها القضاء المصري العظيم من دون أساس ولا دليل، ورفضها جملة وتفصيلا وتلك قصة أخرى.