“لن تهدني الخسارات، مهما كانت فادحة وقاصمة للظهر”. هكذا يقول الإنسان الإيجابي الذي لا يستسلم أمام طغيان الألم والفقدان. إنه ببساطة يحاول استلهام فكرة آرنست همنغواي في روايته الرائعة “العجوز والبحر” التي تحولت إلى فيلم سينمائي آسر بتوقيع أنطون كوين: “قد يتحطم الإنسان.. لكنه لا يُهزم”.
الإيجابيون لا تقف الخسائر، الخيبات والحسرات عقبة في طريقهم؛ إنما تكون حافزا لهم لمواصلة الحياة وتحقيق الانتصارات وتجاوز الهزائم.. ومن ثم هزيمتها!
إن الانتصار على العجز وتحويله إلى طاقة حقيقية تقدم الخير للناس، يأتي أحيانا عبر معاناة شخصية مؤلمة اختبرها شخص ما في حياته، لكنها لم تقف عائقا أمامه عندما قام بتحويل ذكرياتها الموجعة إلى عتبة يعبر عليها أفراد آخرون إلى شط الأمان.
نستذكر هنا قصة الكردي هوشيار علي، الذي لم يفقد الأمل حتى بعد أن خسر ساقيه في انفجارات ألغام أرضية بشمال العراق، فرغم حجم مصيبته التي اضطرته لاستخدام أطراف صناعية للسير والتنقل، إلا أنه مضى قدما في مهمة نزع الألغام من تراب بلاده باستخدام سكين، ساعيا بذلك إلى إنقاذ غيره من المصير ذاته الذي واجهه.
علي لم يفقد ساقيه فحسب بواسطة تلك الألغام، بل فقد أخاه أيضا، الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام بسبب ملايين الألغام المتناثرة في الأراضي العراقية.
ورغم أنه يواجه خطر الموت في كل يوم، إلا أن إزالة الألغام باتت جزءا مهما من حياته، ويهدف من خلالها إلى إبعاد الخطر والألم عن حياة الأبرياء، إلى أن أصبح خبيرا في هذا المجال.
القصص من هذا النوع مستمرة ولا تنتهي، وجميعنا لا ننسى ماهر قدورة، وهو الأب الذي فجع بفقدان ابنه حكمت ابن السبعة عشر ربيعا في حادث سير بشارع مكة في العام 2008.
لا شك أن تلك الحادثة شكلت له فاجعة كبيرة لم يستطع تجاوزها بسهولة، لكنّه في النهاية استطاع أن يحول ألمه، وربما غضبه على السائق الذي تسبب بمقتل ابنه، إلى طاقة إيجابية كبيرة، أسهمت في إنقاذ عشرات الأرواح من المصير نفسه الذي قضى به ابنه، ومنح أملا بأن لا يتذوق الآخرون المرارة الألم الثقيل الذي تجرعه.
قدورة عمل على إطلاق مبادرة حكمت للسلامة المرورية، في محاولة منه للتقليل من نسبة الحوادث التي يذهب ضحيتها الصغار والكبار، وبهدف نشر الوعي المروري بين المواطنين، والتقليل من نسب الحوادث وما ينجم عنها من خسائر في الأرواح.
إن هذه المبادرة التي خرجت من رحم الألم لمعاناة هذا الأب، درست العديد من “البؤر الساخنة” لمواقع حصول حوادث السير، خصوصا الدهس، وابتكرت حلولا دائمة لها، حاولت من خلالها تقديم مقترحات لتلافي الحوادث، ناهيك عن التوعية المرورية التي نشرتها المبادرة على الأفراد والمؤسسات.
القائمة طويلة ولا تنفد عندما نستذكر أشخاصا قاموا بالتبرع بأعضاء أطفالهم بعد دخولهم في حالة موت دماغي بسبب حوادث مرورية، وأرادوا من خلال ذلك منح فرصة لأطفال آخرين كانوا يواجهون خطر الموت في كل لحظة، إذ ربما أن استمرار حياة الأطفال المحتاجين تقلل في عيونهم مأساة خسارتهم الخاصة لأبنائهم.
استثمار الإنسان لتجاربه الشخصية والقاسية والمظلمة وتحويلها إلى طريق أمل ونور، يغذي حياة آخرين، ويجنبهم تذوق مرارة الألم، ويكون ذلك بالنسبة له بمثابة الحافز لتخطي العقبات، والتمسك بالحياة.
هؤلاء الأشخاص الإيجابيون يتجاوزون الألم ويقاومونه بالتحدي والبناء، ويؤكدون أن الحياة حين تسلب عزيزا، تخلق لدينا في المقابل، قدرة لكي نقدم أقصى ما لدينا، لكي نرى خساراتنا في عيون الآخرين فرحا، فتهون علينا مصائبنا.
هكذا نتأكد أننا ننتمي إلى الإنسانية، وأننا جمعيون في ألمنا وفرحنا.