تحويل قضايا الفساد إلى القضاء

السلطة القضائية هي الجهة المؤهلة لمحاكمة قضايا الفساد وسائر الجرائم والمخالفات. وهذا يجعل العدالة تأخذ مجراها بعيدا عن التسييس والتحشيد والتأثير الجماهيري والإعلامي، لأن تحويل قضايا جنائية وحقوقية إلى جدل سياسي وإعلامي وجماهيري ربما يضيّع الحقوق، وقد يظلم أبرياء، ويختلط الحابل بالنابل، وتتحول مواجهة الفساد إلى فساد. ولا أعني بذلك، بالطبع، تعطيل الرقابة النيابية والإعلامية والمجتمعية، ولكنا نعلم أن تحقيق العدالة يحتاج إلى مقدار كبير من الحجج والاستماع والدفاع والشهادات والخبراء، وإلى زمن طويل لا يصلح معه بحال الأسلوب الإعلامي والنيابي في العمل.اضافة اعلان
من المهم أن يطمئن المواطنون وممثلوهم المنتخبون إلى أن العدالة تأخذ مجراها، وأن يحاسبوا الحكومة على أداء واجباتها المتعلقة بمتابعة كل المخالفات وتصحيحها أو محاسبة الفاعلين، ولكن ليس على حساب العدالة والقضاء.
وحتى يستطيع القضاء أداء واجباته المقدسة والبالغة الدقة والحرج، يجب أن نطمئن إلى أن القضاء لا تربكه وسائل الإعلام والحركات الجماهيرية؛ فالعدالة ليست دائما تعجب الناس والإعلام والجماهير، ولا تتفق دائما مع الرغبات والنوايا الحسنة أو المندفعة بحماس للمحاسبة والمحاكمة. إذ إن العدل لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما بدم بارد وأعصاب هادئة، وفي عمليات استماع وبحث طويلة ودائبة لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
والمحاكم هي أيضا الأكثر تأهيلا من الناحية المؤسسية والفنية للنظر في كل الجرائم والمخالفات، بحكم الاختصاص والتراكم الطويل والمؤسسي والتدريب والإعداد المهني والتقاليد والقواعد المتبعة في المحاكم والنظر في القضايا، ويكون واجب النواب ودورهم في تقديم البينات والحجج ومساعدة العدالة.
ويتوقع أن عمليات التصحيح والمحاسبة ستكون طويلة ومعقدة، وتتضمن قضايا كثيرة جدا، تحتاج إلى تفرغ لا يقدر عليه النواب. وحتى لا يتحول مجلس النواب إلى نشاط سياسي وإعلامي بعيدا عن واجباته الأساسية في المراقبة والتشريع، ولتأكيد استقلالية السلطات، فإن إحالة جميع قضايا الفساد إلى القضاء هو الأقرب إلى روح الدستور والمؤسسية واستقلالية السلطات، ويرتقي أيضا بالعمل السياسي والجماهيري إلى مستوى من الوعي والنضج، ويحمي مواجهة الفساد من التحول إلى زفّة يوظفها الشطار وتغطي على جرائم وتحمي مذنبين وتغتال أبرياء (ربما) وتوظف في النميمة والإشاعات، وتودي بالثقة والمصداقية، وتعطل المؤسسات.
ربما كان مناسبا أن تطرح في البداية قضايا الفساد في الإعلام، وتبسط أمام الرأي العام لتأكيد مصداقية الدولة وجديتها في المحاسبة ولطمأنة المواطنين واكتساب ثقتهم، ولكن ما حدث حتى الآن في هذا المجال يكفي لتحقيق ذلك، ولندع القضاء يأخذ دوره من غير "شوشرة".

[email protected]