"تخاريف" التلفزيون

التلفزيون القديم كان يشبه الأب المحافظ. الأب التقليدي. ربما كان "متشدداً" بعض الشيء، في حقبة الأبيض والأسود. وأوائل الحقبة الملونة. لكنه كان موضع ثقة العائلة، ويمكنها ترك أطفالها بصحبته.اضافة اعلان
التلفزيون الآن، ربّ عائلة سيئ!
ولم تعد هذه الشاشة مؤتمنة على تربية الأولاد.
أعرف أن ثمة نوافذ واسعة على الانترنت واليوتيوب ووسائل التواصل تجعل الحديث عن أثر التلفزيون غير مهمٍّ بالمرّة. لكنّ التلفزيون دائما ما كان فرداً من العائلة، وعليه أن يكون مختلفاً، وموضع ثقة الناس. لا أن يسهم في صنع الرداءة وترويجها، وفي تقديم الـ"تخاريف" والاحتفاء بها.
ما زلت أتذكّر ما قاله جورج قرداحي، في حوار صحفي، مرة (أنا وأم كلثوم نُمثّل الإجماع العربي الوحيد على مدار التاريخ الحديث بأكمله)، فأي ثقة يحتاجها مذيع "برنامج مسابقات" ليتجاهل جمال عبدالناصر وفيروز وإدوارد سعيد ونجيب محفوظ وسعاد حسني ومحمود درويش، وخزانة الأسماء الثمينة كلّها، ليعلن نفسه أهم من كل رموز العصر العربي الحديث؟ لمجرد ربما أن بضع نساء وحيدات طلبن أن يتصوَّرن معه، أو أن بضع مراهقات ضحكن له في المصعد!
هو نفسه مرض روبي التي كانت تعتقد أن حركاتها اللينة أهم من دماغ فاروق الباز أو محمد عابد الجابري، ومرض هيفاء وهبي التي ظلت تعتقد أن كل أصحاب "رجب" مهووسون بالتحرش بها، وخيانة صاحبهم، فناشدته في أغنيتها التاريخية التي سيتذكرها العرب بأن ينتصر لها و"يحوش" صاحبه عنها!
فكرة النجومية في الوطن العربي، صارت تلقائياً تحيل للشعبوية، وللغثّ من الأشياء دون السمين، ولرخيص السلع، لا ثمينها، فالجماهير أصبحت رهناً بالانتشار الواسع مع أن الانتشار لا يعني الإيجابية بالضرورة، فالنكات البذيئة هي الأكثر انتشاراً بين الناس!
حتى صار البعض يعتقد أن اجتماع الناس حول أي شيء يعني إجماعهم، مع أن الناس قد يجتمعون في الشارع على حادث سير، أو يلتمون ويتجمهرون على فضيحة!
والمرض الذي يصيب بعض هؤلاء المغنين أو المذيعين، ويجعلهم يتصرفون دائماً كبشر من نوع خاص أو فصيلة متفوقة على الناس، سببه الناس أنفسهم حين يعلون من شأنهم، ويصفقون لهذرهم ويندهشون بسخافاتهم ويفتتنون بأشيائهم العادية جداً!
فالجمهور يبحث دائماً عن بطل. عن صورٍة يبحلق فيها انبهاراً، فلا يُصدّق بعد ذلك إشاعة عن صاحبها!
وهنا لعب التلفزيون دوره الأخطر في تفريخ "الأبطال".
فهو مصنع "النجوم" و"الرموز" السوقيّة، هؤلاء الذين تتلقفهم الجماهير لتصنع منهم أساطير وخرافات!
فالمطربة في الاستوديو تقول للمذيع "أنا أصحو عادة عند العاشرة صباحاً" فيضجّ الاستوديو بتصفيق الجمهور.. رغم أن هذا الجمهور الساذج معظمه يصحو عند العاشرة صباحاً!
هنا المصيبة، حين تصير أشياء هؤلاء النجوم وتفاصيلهم العادية أو الأقل من عادية معلومة مدهشة يصفق لها الناس، فالنجم في اللقاء يمكن أن يقول "أنا امبارح كنت تعبان شوية ومصدع".. وقبل أن يكمل يفاجأ بمئات من الحمقى يصفقون، لا يعرف ولا يعرفون لماذا!
فكيف تصير الأمور إذاً حين تسهر شركات إعلام وفضائيات على تسمين هؤلاء "النجوم"، وبذل كل ما يمكنها لزيادة "تنجيمهم"، وتسويقهم، فتصنع لهم عطوراً بأسمائهم، أو برامج عن حياتهم فتلاحقهم بالكاميرا الى المطبخ والحمام وتظهرهم كيف يتصرفون برأفة وحنان مع الخَدَم والشغّالين!
"تخاريف" التلفزيون العربي تجاوزت المعقول، وصارت تشكّل إهانة مباشرة للمتفرج.. فأين يهرب الناس بأولادهم من هذه السوقيّة وهذا الانحطاط؟!