ترشيد الشبكة والصراع بين المتون والهوامش

كيف يمكن الموافقة على أن التدوين الفردي يتفوق على الإعلام المؤسسي المنظم؟ هل يعقل أن العمليات الفردية والهامشية في الغضب والاحتجاج أو الإشاعة والإساءة أقوى أثرا من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت ومكاتب الإعلام والعلاقات العامة؟ الحال أنه لا يمكن أن يحدث ذلك أو هو احتمال بعيد، وليس شكوى الكبار من ظلم وإساءة الصغار سوى أداة للصراع بين المتن بما هو طبقات النفوذ والمال والتأثير المنظم والمؤسسي وبين فئات واسعة من المهمشين والمحتجين والغاضبين؛ ما يجري ليس سوى صراع طبقي بين قلة تملك أغلبية الفرص والموارد وأغلبية تجد نفسها تمضي كل يوم إلى مزيد من الفقر والحرمان وتدني مستوى الخدمات الأساسية والأداء العام.اضافة اعلان
شبكات التواصل الاجتماعي كما الإعلام بعامة تعمل وتمنح فرصها للأكثر نفوذا والأكثر تنظيما والأكثر مالا، وليس ثمة قاعدة أخرى لفهم وتفسير ما يجري في الفضاء الإعلامي، ولا تملك المجتمعات والجماعات التي تسعى للتأثير في المصالح والسياسات أو للضغط على السلطة والشركات والقيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على اختلاف اتجاهاتها ومصالحها وبغض النظر عن صحتها أو صوابها سوى أدوات ومساحات ضئيلة ومحدودة للتعبير والتأثير لا تزيد في هامشيتها وعزلتها عن عزلة الجماعات والفئات المحرومة أو الغاضبة، لماذا إذن الشكوى المريرة مما ينشر في شبكات التواصل؟
صحيح بالطبع أن الشبكية أتاحت لجميع الناس فرصا جديدة للاطلاع والمشاركة في النشر والتأثير، وأن النشر والبث في الصحافة والإعلام والتأثير في المؤسسات كان عمليات مركزية منظمة تخضع للسلطات أو شركات كبرى تدور في فلك السلطات السياسية أو الكارتيلات الاقتصادية أو الشخصيات النافذة والتي هي جزء من السلطات والنفوذ، ولم تكن في صف المجتمعات أو المعارضات، لكن يفترض أن الإتاحة والإمكانيات الجديدة للأفراد في الوصول إلى شبكات المعرفة وتداولها من غير كلفة مادية أو سلطة تنظيمية لا تغير كثيرا في الفجوة الهائلة بين المؤسسات الإعلامية التابعة للسلطات والشركات أو المؤيدة لها وبين المدونين الفرديين؛ وأغلبهم من الهواة وغير المتفرغين ولا يملكون من الموارد ومصادر المعلومات ما يقلل من قدرة المؤسسات الكبرى.
الأزمة إذن ليست في قدرات أو فرص مادية أو تنظيمية أو مؤسسية جديدة أو إضافية استولت عليها الجماعات المعارضة والمهمشة والغاضبة،.. لكنها في حالة اقتصادية اجتماعية ثقافية جديدة، ولسوء حظ السلطات والنخب فإن الحرمان من الشبكة (إذا كان ذلك ممكنا) لن يغير في التحولات الكبرى الجارية حولنا.
النخب والطبقات والمؤسسات المستفيدة من واقع يتصدع أو يتغير تلعب في الوقت الضائع، وليس لديها سوى الاندماج في قواعد جديدة للمشاركة والتنافس والصراع والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي، وما تفعله اليوم من الإغراق الشبكي و"الدبق الإعلامي" يزيد الأزمة سوءا ويزيد الفجوة والكراهية بين الطبقات والفئات الاجتماعية والاقتصادية.
الخيار الوحيد أمام "المتن" هو اكتساب ثقة أكبر قدر ممكن من الناس إن لم يكن جميعهم؛ ليس بأسلوب الأفراد والمدونين ولا بثقافة ثأرية أو هامشية، لكن بمبادرات كبيرة ورائدة تجتذب المجتمعات والطبقات والفئات الاجتماعية والمهنية على تعددها وتنوعها وتشابك الاتجاهات والمصالح أن ينشئ عمليات محتوى متقدمة في الأخبار والتثقيف والتعليم المستمر والترفيه الجميل والإبداع وبناء وجهات النظر وتحسين الحياة والارتقاء بها وتعديل السلوك وبناء التضامن والتماسك الاجتماعي، أو ببساطة ووضوح أكثر أن تربط مصالحها بالارتقاء بالمجتمعات وليس بإضعافها.