تغير مفهوم واشتراطات "الحق في التعليم"

في المقال السابق، استعرضت ما تقوله عائلات عديدة عن التعليم الذي تديره وزارة التربية عن بعد اليوم، وكيف أنه يفتقر إلى متطلبات مهمة يتوجب توافره عليها.اضافة اعلان
الوزارة، التي وفرت منصات مرئية ورقمية للتعليم، تريد أن تقول إنها بذلك تصرّ على استدامة مفهوم «الحق في التعليم» للجميع، وأن منصاتها توفر ذلك.
من أجل مناقشة دفوع الوزارة في هذا الإطار، لا بد من العودة إلى تعريف المعنى الموضوعي لـ «الحق في التعليم» ومتطلباته، فمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو»، التي تشدد على ضمان التمتع الكامل بحق التعليم باعتباره أساسا لتحقيق التنمية، تقول إنه «لضمان ممارسة الحق في التعليم، فلا بد من وجود تكافؤ في الفرص وتمتع الجميع بالتعليم».
اتفاقية اليونسكو، الملزمة للدول الموقعة عليها، لمكافحة التمييز في مجال التعليم، تشدد هي الأخرى «على ضرورة الالتزام بمنع أي شكل من أشكال التمييز في التعليم»، إضافة إلى «العمل على زيادة الفرص التعليمية المتكافئة».
الاتفاقيات الدولية في هذا الإطار عديدة، ولا يمكن إدراجها كلها، وجميعها تتحدث عن «الحق» في موازاة «التكافؤ» و «العدالة»، وهي مفاهيم لا يمكن لها أن تنفصل حين نتحدث عن دول تتعهد بتأمين التعليم لمواطنيها: التعليم الابتدائي الإلزامي المجاني، والتعليم الثانوي بجميع أشكاله، وإتاحة التعليم العالي على أساس القدرات الفردية.
إن المبدأ الأساسي الذي تركز عليه هذه الأطر التنظيمية، هو بلا شك «عدم التمييز»، و «تكافؤ الفرص في الانتفاع بالتعليم»، أي المطلوب أن تتصف هذه المسألة بالعدالة والإنصاف. وهنا تبرز معضلة كبيرة، سواء على المستوى العالمي أو المحلي، فالسياسات الاقتصادية غير المراعية زادت من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ليصبح الحق في التعليم مبدأ منحازا ابتداء؛ فقد بات حقا خاصا بالمقتدرين بعد أن انسحبت الدولة من دورها الداعم لشموليته وعدالته.
مفهوم شمولية التعليم وعدالته كان يعني سابقا توفير البنى التحتية للمؤسسات التعليمية لدى كل المجتمعات في جميع أنحاء الدولة، وتسهيل الوصول إليها، والتكفل بمجانية التعليم وإلزاميته، المدرسي على الأقل، وتوفير معلمين أكفاء وتدريبهم باستمرار، وأيضا مناهج وكتب، وغير ذلك من أدوات أساسية.
ومع أن العدالة كانت غائبة في الأصل بين المجتمعات المختلفة، إلا أن الجميع تواطأ على اعتبار أن الدولة تقدم عدالة نسبية ضمن الإمكانيات المتاحة. لكن جائحة كورونا حفرت بشكل أكثر عمقا لترسيخ أوجه اللاعدالة في التعليم، وتغييب تأمين معايير تعليميّة متكافئة، وخنق تأمين فرص تدريب عادلة للمعلمين، والأهم تراجع دور المعلم في عملية التعليم برمتها، بعد أن تم استبداله بمقاطع مصورة لا تقدم فوائد إضافية عن الكتاب الذي في يد الطالب.
في هذا المقال، لا أريد التنظير حول المشاكل التعليمية والتربوية والسلوكية العديدة التي يفرضها التعليم عن بعد على الطالب، فقد تصدى خبراء عديدون للحديث عن هذا الموضوع المهم. لكن ما أود التأكيد عليه هو التغير في طبيعة مسؤولية الدولة عن التعليم، والمهام الجديدة التي يتوجب عليها الاضطلاع بها، و «البيئة» التي ينبغي لها توفيرها.
في ظل الجائحة، وبعد أن توجهت الوزارة إلى اعتماد التعليم عن بعد، لا بد من أن نراجع مفهوم عدالة التعليم من حيث المعنى، فإذا كانت في الماضي تتحدد بتوفير الأساسيات السابقة، فإننا في حاجة ملحة اليوم إلى أن نضيف إليها مفهومين آخرين مهمين في ظل الظروف غير الموضوعية التي تحتكم إليها العملية، وهما «التوصيل» و «الفاعلية»، أي إيصال التعليم إلى الطالب، وبفاعلية تقترب من اشتراطات الغرفة الصفية.
البنك الدولي، وفي دراسة له صيف العام الحالي، يقول إن أكثر من 16 % من طلبة الأردن يفتقرون لإمكانية الوصول إلى الإنترنت، بينما ثلث الطلبة لا يملكون جهاز كمبيوتر لاستخدامه لأداء الواجبات، وأن أقل من 30 % من الطلبة في الفئات الأدنى اقتصاديا لديهم جهاز كمبيوتر، بينما لا يتمتع 50 % منهم بإمكانية الوصول إلى الإنترنت.
ربما يكون هذا هو ما نتحدث عنه في مفهوم «الحق في التعليم». وإلى حين إيجاد وسائل مناسبة لتخطيها، سيظل سؤال العدالة والشمولية مطروحا على وعي الدولة والنخب!