تنكة السمن البلدي

الفساد مثل غيره من الأمور تتطور أشكاله وتتغير وسائله. وكما قال احد الزملاء، قبل عقود كانت مرتبة عليا من الفساد حصول أحدهم على خط باص او موافقة على مكتب تكسي، وإذا كان هذا الشخص يخاف من الرقابة وألسنة الناس قام بتسجيل الباص او مكتب التكسي باسم زوجته او احد ابنائه، وإن كان من المستعجلين على قطف ثمار الفساد قام ببيع خط الباص او رخصة المكتب ووضع الآلاف في جيبه.

اضافة اعلان

الفساد كان، ايضاً، مغلفا متخما بالدنانير من فئة العشرين ديناراً، قبل ان يتم اصدار فئة الخمسين، لمن لا يستحق، وهذا النوع من الفساد ما زال موجوداً، لكنه يغيب سنوات ويعود ثم يغيب. والفساد بشكله البسيط عزومة على منسف تكلف صاحبها (300) دينار ما بين اللحم والجميد والارز والكنافة، ومن تقام العزومة "على شرفه" يدفع مقابلها قراراً اداريا بتعيين او نقل، او أي قرار لو لم يكن لصاحب العزومة مصلحة فيه، لما دفعت "الخرفان" ثمناً من حياتها.

وفي زمن بعيد كانت السمنة البلدية من أدوات الفساد! فالبعض كان يتلقى رشوة او هدية عبارة عن تنكة سمنة بلدية وأحيانا (نُصية) من السمنة، واحيانا كان الحلال الحي جزءاً من الهدايا المشروطة، وبخاصة عندما يكون طلب القرارات في بيت المسؤول، فيأتي الانسان المسكين بخروف او جدي او كبش يجره الى بيت المسؤول حتى يحصل على حقه في تعيين ابنه او الحصول على بعثة دراسية.

لكن الفساد كائن حي يتطور، وكم كانت فاتورة الفساد بسيطة عندما تكون قيمتها خط باص او مكتب تكسي، فهذا قيمته (10) او (20) ألفا من الدنانير. أمّا اليوم فيمكن لشركة ان تقوم في مكان ما من العالم وتدّعي أنها تريد إقامة استثمارات، ومن باب دعم الاستثمار من الدول تعطى لها الأرض بسعر شبه رمزي، ومع ضجيج الاستثمار وحجر الاساس وإعلانات ترتفع الارض عشرات الأضعاف، وعندها يتم البيع بأسعار خيالية تفوق حتى رأسمال المعلن لهذه الاستثمارات، ونظريا تسجل الدوائر الرسمية أرقام بضع ملايين، لكن تجارتها الحقيقية كانت في اراضي الدولة، فباعت مواطني الدولة ارض دولتهم، لكن الارباح بعشرات الملايين ذهبت للمستثمر "النظري" الذي لا ينسى فضل من ساعدوه؛ فأيهما يستنزف مقدرات الدولة تنكة السمنة البلدية وخط الباص أم مثل هذا الاستثمار الشكلي؟!

في بلادنا يتحدث المسؤولون، العاملون والمتقاعدون، عن تهرب ضريبي في مرحلة سابقة،  وصل الى اكثر من (600) مليون دينار. والتهرب الضريبي يعني أن أثرياء وأصحاب نفوذ رفضوا بشكل ما دفع ما عليهم من ضرائب، وهذه الضرائب زادت على (600) مليون دينار، فكيف تهرب هؤلاء من الدفع؟ ومن الذي سكت عنهم سنوات وسنوات؟ وكيف تجري بقية امورهم ومعاملاتهم الرسمية وغالبها مالية وعليهم هذه الملايين مع أنّ أي شخص يترك وظيفته لا يتم إنهاء أوراقه إلاّ إذا جاء ببراءة ذمة من ضريبة الدخل حتى وإن كان راتبه غير خاضع للضريبة؟

(600) مليون تهرب ضريبي، لكن اي مواطن يتأخر عن دفع فاتورة المياه لدورتين يتم قطع المياه عنه، والهاتف الخلوي او الارضي لا تجتمع عليه فاتورتان إلاّ ويتم فصله، وحتى المواطن الذي عليه ضريبة مسقفات فإنّه وإن تأخر عدة سنوات فإنّ أول معاملة رسمية تجبره على دفع ما عليه؛ فكيف يتم تسيير معاملات هؤلاء وهي كثيرة، ولهم شركات ومصانع دون أن يدفعوا ما عليهم؟!

قديما كانت تنكة السمنة او الخروف تُدفع لتعيين شخص موظفا في البريد او الصحة او أي دائرة رسمية، وهذا يقودنا الى إلغاء تصنيف هذه الأفعال من دائرة الفساد؛ فهي لا تقارن بتعيين شخص بموقع مدير عام او امين او وزير لأن له واسطة او لأنه ابن وزير او رئيس. والمشكلة ليست في أن يأتي شخص وزيراً، وهو قليل الكفاءة والخبرة، بل في أنّ هذا الشخص سيعود مرة بعد أخرى. واذا لم يجد له أنصاره موقعا وزارياً ذهب سفيراً أو غيرها من المواقع الهامة. لهذا نقترح على من يمارسون الواسطة، على حساب هذه المواقع، أن يعودوا إلى فكرة المغلفات او مردود مكتب التكسي او خط الباص، فاذا توفر اصرار على تنفيع شخص او اعطائه جاها لأنه ابن فلان او حفيد علان او صديق زيد او محسوب على عبيد، فلا يتم هذا عبر اعطائه موقعا خاصا بخدمات الناس وأمور الدولة، بل لتجتمع لجنة من اصحاب القرار الذين تتوفر فيهم الموضوعية، وليقدروا لهذا الشخص تعويضا مناسبا عن (حرمانه!) من هذا الموقع ومنحه اياه بدلاً من أن (يركب) على رأس الاردنيين، بل ويصدق أنّه نعمة من الله تعالى على هذا الشعب، ويُصدق أنّه صاحب كفاءة وأنّ الدولة لا تسير دون حضوره.

مع تقديرنا لصدق توجهات الحكومة ومجلس الأمة في إقرار مشروع اشهار الذمة المالية إلاّ أنّ هذا القانون ومعه كل التشريعات التي جاءت لتحارب الفساد تحتاج إلى أن تتطور بسرعة تطور الفساد. فهل نعتقد في زمن غسيل الاموال وغسيل الاشخاص والدول أن من يأتي إلى رصيده بمال غير شرعي لا يجد وسيلة لإخفائه عن الحكومة او دائرة معينة بالمتابعة.

فهل المال او الرصيد يوضع في (شوال) تقوم الدولة بعدّه عند تعيين الشخص, أم إنّ الدنيا فيها حكايات الأرقام السرية، أم إنّ بنوك العالم وأسواق الأسهم وسندات تسجيل المزارع والفلل المتناثرة في العالم تتبع إداريا للحكومة الأردنية!

[email protected]