تنويعات على لحن البطالة

 

في أيامنا هذه، كثيرا ما نسمع من جهات كثيرة مستغربة أن الحكومات في أوروبا وأميركا الشمالية، وبنوكها المركزية، لابد وأن تتخلى عن السياسات التوسعية التي تبنتها في محاولة لخلق فرص العمل. ويزعم منتقدو التحفيز الحكومي أن مستوى البطالة المرتفع، الذي ابتليت به بلدان شمال الأطلنطي حالياً، ليس دورياً بل "بنيوياً"، ولا يمكن تخفيفه بالتالي بتبني السياسات المعززة للطلب الكلي.

اضافة اعلان

واسمحوا لي أن أكون أول من يقول إن البطالة البنيوية تشكل خطرا حقيقيا وشديدا. فلا بد وأن يكون من الواضح أننا نعاني من مشكلة خطيرة حين نجد الناس الذين قد يكونون في ظروف أخرى سعداء وأصحاء وأعضاء منتجين في القوة العاملة ولكنهم يفتقرون إلى المهارات والثقة والشبكات الاجتماعية والخبرات اللازمة للعثور على عمل يستحق أن يدفع لهم من أجل الحصول عليه. وإذا ظلت معدلات البطالة في أوروبا وشمال أميركا مرتفعة لعامين آخرين، فمن المرجح إلى حد كبير أننا سوف نضطر إلى مواجهة الأمر. فلا شيء قادرا على تحويل البطالة الدورية إلى بطالة بنيوية أكثر من البطالة المطولة.

ولكن هل يصدق هذا على حالنا اليوم؟ وهل يبدو الأمر الآن وكأن المشكلة الأضخم التي تواجه الاقتصاد في أوروبا وشمال أميركا هي البطالة البنيوية؟ كلا.

واسمحوا لي أن أذكركم بالهيئة التي قد تبدو عليها البطالة البنيوية. إن الاقتصاد راكد والبطالة مرتفعة، ليس بسبب ركود الطلب الكلي الناتج عن انهيار الإنفاق، بل إن هذا راجع إلى بعض العوامل "البنيوية" التي ساهمت في إيجاد نوع من عدم التوافق بين مهارات القوة العاملة وتوزيع الطلب. وبهذا أصبحت بنية الطلب من جانب المستهلك مختلفة عن الوظائف التي قد يتمكن العمال من شغلها.

ولنفترض على سبيل المثال أنك لديك العديد من العمال المؤهلين المهرة للعمل في قطاع البناء، ولكن الأسر قررت أن مساكنها متسعة بأكثر من القدر الكافي، وهي لذلك راغبة في تأثيثها بسلع مصنعة. إن هذا الوضع من شأنه أن ينتج بطالة بنيوية إلى الحد الذي قد يجعل عمال البناء سابقاً عاجزين عن القيام بوظائف قطاع التصنيع التي قد تجعل شركات التصنيع راغبة في توظيفهم.

وفي هذه الحالة فمن الطبيعي أن نتوقع كسادا في مجال البناء: حيث تغلق الشركات أبوابها، وتكسد السلع الرأسمالية، ويصبح العمال عاطلين عن العمل. ولكننا لابد وأن نتوقع أيضا ازدهار العمل في مصانع السلع المصنعة واضطرار عمالها إلى العمل لنوبات مزدوجة ـ فالأموال التي لا تنفق على البناء لابد وأن تذهب إلى مكان ما، ولنتذكر هنا أن المشكلة لا تكمن في نقص الطلب الكلي. وكنا لنتوقع من شركات التصنيع أن تقعد معارض للوظائف، وحين لا يقبل عليها العدد الكافي من العاملين فإننا كنا لنتوقع من شركات التصنيع أن تعرض أجوراً أعلى لاجتذاب العمال إلى مصانعهم، ثم ترفع أسعار السلع التي تنتجها لتغطية تكاليفها التي ارتفعت بارتفاع أجور العمال.

قد يكون حجم ومدة البطالة الزائدة بين عمال قطاع البناء السابقين كبيراً ومستديماً لفترة طويلة. وقد يتطلب الأمر قدراً كبيراً من الوقت لإعادة تدريب عمال البناء وتوزيعهم على الشبكات الاجتماعية الكفيلة بتحويلهم إلى عمال تصنيع مهرة. وقد نشهد بطالة مرتفعة لفترة طويلة في قطاع البناء، وفي المناطق التي شهدت فيما سبق أضخم موجات ازدهار البناء.

ولكن يجب إيجاد توازن بين الكساد في قطاع البناء والبطالة بين عماله السابقين بفضل الوفرة في قطاع التصنيع، وارتفاع أسعار السلع المصنعة، وساعات العمل الأطول والأجور الأعلى في قطاع التصنيع.

هذا هو ما قد تبدو عليه البطالة البنيوية "غير المتوافقة" ـ وهذا ليس ما نعانيه اليوم، أو على الأقل ليس في أوروبا وأميركا الشمالية. ففي الأعوام الثلاثة الماضية تقلصت فرص العمل في قطاع البناء، ولكن هذه كانت أيضاً الحال في قطاع التصنيع، وتجارة الجملة، وتجارة التجزئة، والنقل والتخزين، وتوزيع المعلومات والاتصالات، والخدمات المهنية والتجارية، والخدمات التعليمية، والخدمات الترفيهية والفندقية، والقطاع العام. ولقد ارتفعت مستويات العمالة في مجالات الرعاية الصحية، والخدمات المرتبطة بالإنترنت، وربما في مجالات قطع ونقل الأشجار والتعدين.

لقد شهدت الأعوام الثلاثة الماضية في الولايات المتحدة هبوطا في معدلات تشغيل العمالة من 137,8 مليون شخص في تموز (يوليو) 2007 إلى أقل قليلاً من 130 مليون شخص في تموز (يوليو) 2010 ـ أي بانحدار بلغ 7,9 مليون وظيفة أثناء الفترة التي شهدت نمو تعداد البالغين بنحو ستة ملايين شخص. وهذا الذي شهدناه لم يكن تحولاً في الطلب نحو قطاعات تفتقر إلى العدد الكافي من العمال المؤهلين والمنتجين، بل كان انهياراً في مستوى الطلب الكلي.

وقد يبدو هذا أشبه بالبطالة البنيوية في غضون ثلاثة أعوام من الآن. ولكننا في غضون ثلاثة أعوام قد نشهد نقصا في عدد العمال، وارتفاعاً في الأجور، وزيادة في الأسعار في القطاعات المتوسعة، وقد يكون كل ذلك مصحوباً بارتفاع مستويات البطالة في قطاعات أخرى من الاقتصاد.

ولكن هذه ليست مشكلتنا الآن. فلدينا الآن من الشرور ما يكفينا ويفيض.

* مساعد وزير خزانة الولايات المتحدة سابقا، وأستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

خاص بـالغد بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت