توريث المهنة والحرفة

توريث المهنة ظاهرة اجتماعية وربما تكون عالمية أيضاً. ومن ذلك توريث الطبيب (الناجح) مهنة الطب لابنه أو لابنته، وكذلك يفعل المحامي، والصيدلي، والمهندس، ورجل الدين... لدرجة أن كثيراً منهم يعدهما لذلك بالتنشئة والتربية والتعليم والتوقعات. وحتى وإن لم يفلح الابن أو الابنة – أحياناً – في الامتحان المؤهل للقبول في الجامعة المحلية، فإنهم يبحثون عن أي جامعة أخرى في العالم، تقبله ويتخرج فيها. وبعدها يدربه ليصبح البديل أو الوارث للمهنة بعد طول العمر. ومثله توريث الحرفة أو الصنعة عند الفنيين في المدن، وبخاصة عند العاملين في متطلبات العمران، كالبنائين، والحجارين،ـ والمكحلين، والطوبرجية، والمبلطين، والحدادين، والصحيين، والكهربائيين... حتى وان تأهل ابناؤهم للالتحاق بالجامعة، فإنهم – عادة – يستلحقونهم بحرفهم، ويورثونهم إياها. الذين يتمنون الخروج من واقعهم وأعمالهم وعدم تورثها لأبنائهم هم العمال غير المهرة، والفلاحين الذين يعملون المستحيل لنجاتهم (أولاد الحراثين) مما عانوه، وليرونهم وقد صاروا من أصحاب المهن المذكورة، والطبقة العليا في الدولة. وهم يقترون على أنفسهم، وقد يبيحون أرضهم لضمان تعليم الأبناء في الجامعة. معظم جيلنا من هؤلاء، وقد تخرجوا في الجامعات، وهاجروا إلى العاصمة أو المدينة، حيث صبغوها بثقافتهم الريفية التي غلبت على ثقافتها المدنية، وملاؤها بالتوسع والعمران، بما في ذلك في قراهم حيث تشتد المنافسة الاجتماعية. غير أنه من المؤسف بل من المحزن حد البكاء عند الآباء والأجداد ضعف الصلة وبداية الغربة بين الأبناء وقراهم، ثم باكتمال الغربة انقطاعها بين الأحفاد وبينها، فلا يعودون إليها إلا إذا ساءت أحوالهم المادية، فيأتون باحثين عن الإرث المفقود، أو الإرث الموجود، فيبيعونه ويعودون. حسناً تفعل الحكومات في توزيع المشروعات الحيوية والدائمة بين مختلف المناطق، لأنها توفر لهؤلاء عملاً مناسباً معنوياً ومادياً فيها، وتبقيهم في قراهم حولها. ******************** هذا العصر هو عصر السرعة الفائقة والمتزايدة بدءاً من السيارة، مروراً بالسفينة والطائرة، وانتهاء بوسائل الاتصال الفورية وفي الوقت الحقيقي. وقد نتج عن هذه الحالة من السرعة المتسارعة إيقاع مماثل في نفس كل منا، فنحن سرعان ما نشعر بالملل بأقل تكرار، وسرعان ما ننسى أيضاً. ومن ذلك أن أعز الناس علينا كابآئنا وامهاتنا وأصدقائنا سرعان ما ننساهم بعد موتهم وكأنهم أو كأننا لم نعش طويلاً وإياهم. بل إننا في المدينة حيث مجمل الناس غرباء لا نراعي مشاعر الجار في الشقة المجاورة أو المقابلة، لأنه لا يوجد بيننا وبينهم اتصال، فلا يهمنا أمرهم ولا يهمهم أمرنا في الأفراح والأتراح، كما تتسبب الأمراض المزمنة للمرء/ة تمني ذويه أخذ الله وديعته ليستريح ويريح لأن مساحة الإقامة في النفس تضيق في المدينة بضيق الشقة وعصر السرعة. في العزاءات اليوم يأتي الناس بالجملة إلى ديوان أهل الفقيد لا لأنهم يعرفونه وإنما مجاملة لمركزهم في المجتمع، أو في السلطة، أو في المال، ولذلك لا ترى حزناً على الوجوه. كان الأمر مختلفاً في العصور البطيئة السابقة حيث الاتصال والتواصل هما أسلوب الحياة، ولذلك كانت ذكرى الفقيد/ة تدوم طويلاً، والحزن عليهما ممتداً لأن الجميع يعرفون الفقيد/ة ولهم صلات أو علاقات لا تنسى معهما، قبل أن يخلع ذووهما ثياب الحزن وإماراته. وكانوا في القرى يمتنعون عن إقامة الأفراح والليالي الملاح حزناً عليهما ولأشهر او لسنة، وإلا اعتبر من يفعل ويفرح في اثناء ذلك معادياً لأهل الفقيد/ة. لا يعني ذلك انني ابكي على الأمس الذي يعجز أهل الأرض عن رده أو أتمنى عودته لأنه لو يعود لكرهناه، وإنما أصف الفرق بين اليوم والأمس وإن التكنولوجيا هي المغير والمتغير الحاسم في التاريخ، بل صانعة التاريخ. ولا عجب إن سميت العصور التاريخية باسمها.اضافة اعلان