ثقافة النقل العام: الحوادث لا تقع فجأة!

 

بدت حوادث السير في الشتاء الحالي مفجعة جداً. ولعلها المرة الأولى التي يقضي فيها23 مواطناً مرة واحدة، نتيجة حادث تدهور الباص على طريق جرش. لكن من يسافرون كثيراً على الطرق الخارجية، بين عمّان والعقبة أو إربد والعقبة، يعلمون أن الوصول بالسلامة يكون مرده عناية الله، فهذه الرحلات باتت في السنوات الأخيرة خطرة وغير مأمونة، على غير ما كانت عليه قبل ذلك، إذ يلاحظ"الركاب" عادة استهتار بعض السائقين والقائمين على الرحلات بهم، والتعامل معهم على اعتبارهم أرقاماً يعدّونها ويضربونها في قيمة التذكرة ليحصوا ما يتأتى منهم من"غلّة"، وكأن لسان حالهم يقول"لو كانوا ذوي قيمة ما ركبوا باصات النقل العام!".

اضافة اعلان

حادث طريق جرش ليس حالة فردية إذن،أو استثناءً لا يمكن أن يتكرر، فالتحقيقات الرسمية التي تم إعلانها حتى الآن بناءً على ثلاثية "الطريق والمركبة والشهود" حسبما قال تقرير الأمن العام، أثبتت أن الحادث مرده ذلك الاستهتار بالركاب والتعاطي معهم على اعتبارهم أرقاماً تشغل مقاعد الباص، لا بشراً يُخشى على أرواحهم.إنها إذن أزمة "ثقافة النقل العام" التي لا تجعل لسلامة الركاب قيمة كبرى، وهي ذاتها الموجودة في النقل الخارجي والداخلي،وفي الحافلات الصغيرة والكبيرة.

وهكذا، فإن حادثاً مروعاً كهذا كان يمكن أن يقع في أية لحظة، سواء كان الشارع"مؤثثاً" بالشواخص المرورية أم لم يكن، وسواء كان على سطح الشارع شيء من المطر الذي يسبب الانزلاق أم لا، فهذه كلها لا دخل لها بممارسة السائق التجاوز الخطر في غير محله وموقعه، كي يُنجز ما يعتبرها مهمته في الوصول بسرعة، لا مهمة نقل الركاب من مكان لآخر بسلامة وأمان.

وهذه المشكلة "الثقافية" لا تُحل بما يسمى توعية السائقين، لأنها ثقافة متجذرة عند السائقين وعند غيرهم ممن يتعاملون مع الجمهور، وقيمتها الأساسية الاستهتار بهذا الجمهور لمجرد أنه يلجأ للخدمات العامة.إن هذه الثقافة هي التي تمنع حتى الآن حصولنا على نقل عام مريح، فضلاً عن أن يكون آمناً، فمن يستعمل هذا النقل العام عليه أن يشقى ويتعب ويتعذب مقابل خدمة نقله من مكان لآخر، مع ما في ذلك من مهانة على المستوى الإنساني، ومن إهدار للوقت والجهد على المستوى العملي.

تخيلوا أن"رحلة" من وسط البلد إلى الجامعة الأردنية لا تحتاج في سيارة خاصة أكثر من نصف ساعة وسط الازدحام، لكنها من دون تلك السيارة ستحتاج نحو ساعتين، إذا ما أخذنا بالاعتبار الذهاب إلى مجمع الباصات، ثم انتظار وصول الباص، ثم انتظار تكرّم سائقه بالتحرك، وكل هذا طبعاً على حساب أعصاب"الركاب". أفلا توجد حقاً طريقة لتوفير نقل عام أكثر راحة وأحسن صوناً للكرامة؟!

ثم ماذا عن الأمان المعنوي إضافة للأمان الجسماني؟ إن المنقلوين بالحافلات العامة داخلياً وخارجياً يفتقدون مثل ذلك الأمان حتى لو وصلت أجسادهم سالمة، فهم محكومون لسوء سلوك "بعض!" محصلي الأجرة في النقل الداخلي، وما يسمى المضيفين في النقل على الطرقات الخارجية، فهؤلاء أيضاً يتعاملون مع الركاب باستهتار، وباعتبارهم أرقاماً تشغل مقاعد.وقبل ذلك بسوء سلوك"بعض!" من يشرفون على رحلات النقل الخارجي الذين قد لا يتوانون عن تأجيل الرحلة من دون إخطار مسبق، أو دمج رحلتين في واحدة لحجج وذرائع واهية حقيقتها أنهم لم يتوفروا على عدد كافٍ من الركاب، مع ما في ذلك من تغيير مفاجئ لمواعيد الانطلاق، هذا ناهيك عن الفظاظة في طريقة التعاطي المباشر مع الجمهور من خلال شبابيك الحجز. إنها إذن ثقافة واحدة: ابتداءً من الذين يخططون، وصولاً إلى كونترول الباص الصغير.

ولهذا، فإننا لا نتّهم الشركات الناقلة بالتسبب في حوادث السير في المقام الأول، فهي لا تجد من يردعها، ولا نتهم السائقين، فهم يتمثلون تلك الثقافة الاستهتارية التي يقوم عليها عمل شركاتهم في التعاطي اليومي مع الجمهور. إن المتهم الأول هو من يقدر على تغيير ثقافة النقل العام بتشديد الرقابة والمتابعة الحثيثة، وقبل ذلك بالتخطيط السليم الذي يأخذ بالاعتبار كرامة الناس المنقولين بالحافلات العامة، ثم لا يفعل.

[email protected]