ثقافتنا العاجزة.. ثقافة المحرمات..!

يسود لدينا افتراض بأننا نعيش في مجتمعات "مثالية" من الناحية الأخلاقية واحترام الإنسان، وبأنها أفضل من الغرب وبقية المجتمعات في العالم. ومن أسس هذا التقييم أن الناس "الأخلاقيين جداً" عندنا لا يلامسون ثلاثة محرمات أساسية: الجنس؛ الدين؛ والسياسة. لكننا نعرف جيداً أن غياب هذه الموضوعات عن الخطاب العام يقابله حضورها المفرط في الحوارات الخاصة، وفي المناجيات الذاتية للأفراد. ويخلق هذا التناقض شكلاً مزمناً من الفصام الاجتماعي، حيث تتصرف الثقافة السائدة وكأن هذه الموضوعات غير موجودة، وهي موجودة بوفرة، لأن الناس لا يناقشونها جهاراً.اضافة اعلان
لكن افتراض صلاح المجتمعات، لهذه الأسباب بالذات، يجانب الحقيقة تماماً. والحقيقة هي أن المجتمعات الأخرى التي يُزعم أنها مختلة، هي أكثر أخلاقية وتقدماً وإبداعاً وابتكاراً واستقراراً في النفسية الاجتماعية. وأحد الأسباب هو أن تناول هذه المسائل المحرّمة في ثقافتنا، والتي يتم كبتُ الحاجة إلى مناقشتها هنا، هي شؤون عادية هناك ومفروغ منها، بحيث ينطلق الناس إلى الانشغال بغيرها.
لا يعني فتح الحوار حول هذه العناوين الإنسانية الأساسية بالضرورة تحلل المجتمع وانحدار الأخلاق، وإنما العكس هو الغالب حين يتخلص الناس من العُقد والتظاهر بالمعرفة على أساس الجهل، وحين يصلون إلى القناعات عن طريق الجدل والاستنطاق. وسوف يجد مَن يتابع الصحف والمواقع العالمية المهمة أبواباً ثابتةً تحت عناوين "الدين" و"الجنس"، والتي تضم أفكاراً وأطروحات تتناول مشكلات يصادفها كل البشر في هذه المجالات. ولا يُنتج ذلك مجتمعاً مُستهلكاً بالتفكير في هذه العناوين، وإنما منخرطاً في البحث والتقدم والعمل.
من الإفراط في تحريم غير المحرَّم، أتذكر أن معلم البيولوجيا في الصف الثالث الثانوي تجاوز الفصل الذي يتحدث عن تشريح الجهاز التناسلي في المنهاج، وطلب أن نقرأه وحدنا. وما تزال الحكمة في تخريج طالب بعمر 18 عاماً ولا يعرف علمياً عن تركيب جسمه غائبة عني. وبطبيعة الحال، سيعرف الطالب من مصادر أخرى، وغالباً بطريقة حسية غير علمية. وكذلك، يتربّى الطالب وهو مُجبر على كتمان أي أسئلة قد تراوده عن الوجود والنفس والعلاقات الجنسوية، أو عن مسائل تُصنف في باب السياسة (مع أن كل شيء يتصل بالسياسة). ويتلقى الإنسان العربي المعرفة كجسم من المسلّمات التي عليه قبولها كما هي ولا يجوز له التساؤل عنها جهراً. وما في العالَم أسوأ من ذلك.
تستمر إدارة الوجه بعيداً عن هذه الموجودات في العالم في مرحلة التعليم الجامعي أيضاً. والعُرف الغالب هو أن يتلقى الأستاذ الجامعي تعليمات صريحة بتجنب الخوض في محرمات الجنس والدين والسياسة. وبذلك، يستمر إقصاء هذه المسائل الحيوية والأساسية في الخبرة البشرية من منطقة الحوار العلمي، وتُحرم من إمكان إدارتها بطريقة تفتح العقل وتريحه وتجيب عن أسئلته. والنتيجة الواضحة، هي صناعة أزمة مستدامة في هذه المناطق جميعاً.
تجنب الحديث العام في الجنس لم يُنتج مجتمعاً طوباوياً من هذه الناحية. فلدينا، مثلما لدى الآخرين وأكثر، حوادث الاغتصاب وسوء العلاقات الجنسوية وقتل الشرف والتحرش بالنساء وكل أنواع العُقد النفسية والسلوكية المتعلقة بهذا الشأن. وفي مسألة الدين، لدينا هذه التناقضات الهائلة في فهم الدين وأدواره، إلى حد الاشتباكات الطائفية والاجتماعية وسفك محيطات من الدم تحت هذا العنوان. وفي السياسة، حدِّث ولا حَرج. وفي الغالِب، يولد الناس في بلادنا ويرحلون وهم لا يفهمون ما يجري في المؤسسات السياسية، ولا يعرفون أي أدوار وحصص لهم في أوطانهم التي يشعرون فيها بالغربة، وتُحاك فيها أقدارهم دون أن يكون لهم فيها يدُ.
كثرة المحرمات على الفكر في مجتمعنا تعني في الممارسة تحريم التفكير المنطقي والنقدي، وحرمان المنطقة كلها من طاقات مواطنيها. وفي الواقع، لا يمكن أن يعني التحريم الاجتماعي أو القانوني منع العقل من الحيرة والتساؤل والانشغال بالأساسيات المحرمة، وإنما من دون الفرصة لاختبار الفرضيات الشخصية من خلال النقاش المفتوح. وهذه الحوارات الذاتية المستحيلة والأبدية في العقل الفردي، تستهلك حتماً طاقة كان يمكن أن تتوجه بغير ذلك إلى العمل الدنيوي والابتكار والانطلاق قدُماً إلى ما ينفع الناس. وينبغي الاعتراف عند نقطة ما بأن محرماتنا الكثيرة لا تصنع مجتمعاً مستقيماً منافِساً، وإنما مجتمع واحد مُقعد مُعقد وفي ذيل ركبِ الإنسانية، كما هو حاله.