ثلاث حقائق حول المديونية

بالرغم من أن المديونية بمفهومها المُجرّد تشكل أعباء على الأجيال الحالية والمقبلة، وتنطوي على مفهوم سلبي، بيد أن التحليل المنطقي للديون والمديونية يتطلب فهم مجموعة من الحقائق يمكن تلخيص أهمها في ثلاث حقائق. الحقيقة الأولى، أن تحليل المديونية يجب ألا يقتصر على حجمها أو نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي فحسب، بل إن المقياس الحقيقي للمديونية يكمن في سببها قبل أي شيء. ومن هنا، فإن العديد من دول العالم المتقدم، بما في ذلك الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا وألمانيا، تقبع على رأس هرم حجم المديونية العالمية، وبنسب تتجاوز 100 % من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن سبب تلك المديونية هو المؤشر الأهم؛ أي هل هي مديونية لتمويل مشاريع تنموية، أم لتأهيل البنية التحتية بغية جذب الاستثمارات، أم هي مديونية لتسديد نفقات جارية من رواتب ومصاريف إدارية، ومنافع وظيفية، وغيرها من النفقات الجارية المعروفة. الحالة الأولى، تعني اللجوء للديون لمشاريع ستدر دخلاً، وتوفر وظائف، وتحقق نمواً وتساعد على تحقيق التنمية المستدامة. وهو ما يؤدي إلى تمكين الدول من تسديد مديونياتها عبر العوائد المباشرة وغير المباشرة التي تدرها تلك المشاريع. فالمشروع الذي يقوم على استثمار الموارد المادية والبشرية في الدولة سيؤدي في أبسط الظروف إلى تحقيق عوائد عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة التي تنجم عن إقامة تلك المشاريع، ففي كل وظيفة جديدة يتم إيجاد ضرائب غير مباشرة نتاج إنفاق الراتب على السلع والخدمات في الدولة، ناهيك عما يمكن أن يدره المشروع من دخل مباشر عبر عوائده على الدولة، إن كانت هي المستثمرة فيه، أو عبر ضرائب الدخل والرسوم وغيرها من العوائد التي يمكن أن تحصل عليها الدولة من المشروع، أو من خلال كلتا القناتين. وقد يؤدي المشروع، في حالة توجيه جزء منه أو جميعه إلى التصدير، إلى توفير عملات أجنبية، وبالتالي دعم الاحتياطيات الأجنبية، والاستقرار النقدي في الدولة. الحقيقة الثانية في المديونية أن مصدر المديونية يحدد الأعباء التي تنطوي عليها، فمن ناحية إن كانت المديونية عبر قنوات تجارية؛ أي عبر الاقتراض وفق أسس تجارية من المؤسسات المالية الخاصة، أو من خلال السندات التجارية في الأسواق المحلية والخارجية، فإن ذلك يعني ارتفاع كلفتها نسبياً، وتعذر إمكانية جدولتها إلا بكلف إضافية، وتعذر إمكانية إيجاد بدائل لتسديدها عبر مبادلة الديون باستثمارات، ناهيك عن صعوبة، بل استحالة الإعفاء منها كلياً أو حتى جزئياً في معظم الحالات. ومن ناحية أخرى، فإن المديونية التجارية الداخلية؛ أي تلك التي تنطوي على الاستدانة من القطاع المصرفي المحلي، هي بمثابة مزاحمة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي على الفوائض المتاحة في الجهاز المصرفي، ما يعني انحسار إمكانية اقتراض ذلك القطاع لغايات التوسع في الاستثمار أو الدخول في استثمارات جديدة. فالجهاز المصرفي المحلي يُفضل إقراض الحكومات على إقراض القطاع الخاص، فمخاطر إقراض الحكومة تقترب من الصفر، فهي معنية بالسداد عبر الاقتراض مجدداً والسداد، أو عبر طبع النقود، بالرغم مما يشكله ذلك من خطورة على الاستقرار النقدي في البلاد. أما إقراض القطاع الخاص فهو ينطوي على جهود كبيرة من قبل البنوك لغايات دراسة القرض وتحليل مخاطره، والتدفقات المالية المرتبطة به، وغيرها من المخاطر. الحقيقة المهمة الثالثة، أن الاقتراض من المؤسسات الدولية يرتب التزامات مالية وفنية في آن واحد. والشروط الفنية تنطوي أساساً على مشروطية تتلخص بنودها في إجراء إصلاحات هيكلية في إدارة شؤون البلاد من وجهة نظر هذه المؤسسات، وهو إصلاح يجب أن يعني التأكد من قدرة البلد المعني على تسديد ديونه لتلك المؤسسات وللدائنين الرئيسيين أيضاً. بيد أن صانع القرار في الدولة يجب أن يمتلك قدرة تفاوضية تمكنه من الوصول إلى شروط مقبولة وغير قاسية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قروض البنك الدولي تتركز في الأساس على قروض قطاعية؛ أي أنها موجهة لقطاع محدد، وخاصة في مجال التعليم، والصحة والنقل وغيرها من القطاعات. وبالتالي فإن تلك القروض تنحصر في إجراء إصلاحات هيكلية في تلك القطاعات، ويتم صرفها ضمن ذلك التوجه، ولا يجوز صرفها على غيرها من الأوجه. ويبقى على الدولة ألا تلجأ إلى تلك القروض إلا إذا كانت ستعني إصلاحاً حقيقياً في تلك القطاعات؛ إصلاحاً يؤدي إلى تحسين مستوى التعليم مثلاً، ما يساعد على توظيف الخريجين، أو إصلاحاً في الخدمات الصحية، ما يؤدي إلى تحسين الخدمة ويحسن من مستوى الإنفاق على القطاع، ويجذب الاستثمارات إليه، وهكذا في قطاعات النقل، والاتصالات والسياحة وغيرها. وختاماً، نتمنى أن يؤدي القرض الأخير المزمع توقيعه مع البنك الدولي، إلى تحقيق ذلك في القطاعات المستهدفة منه، حتى لا يؤدي إلى إضافة أعباء جديدة من المديونية على الأجيال الحالية والمقبلة.اضافة اعلان