ثنائية الفقيه والموسيقيّ

كان الفيلسوف كلود ليفي شتراوس يؤكد باستمرار أن "الإبداع لا يكون إلا على الحدود بين ثقافتين". وفي الحضارة العربية الإسلامية كان الدين مكوِناً من مكونات أخرى عديدة صاغت هذه الحضارة، التي تجاوزت المستوى الديني بالمعنى الضيق له. أي أنّ النظام الحضاري تكيّف بالدين، من دون أن يكون النظام كله دينيا، وهذا السرّ هو الذي أنتج الحضارة العربية الإسلامية وجعلها تتطور بفعل منطق داخلي أفرز تجارب حضارية عديدة ومتنوعة،أسفرت عن حلول مبدعة لقرون، إلى أنْ جمُدتْ وعادت مجددا إلى الخوف من الآخرين و"غزوهم الفكري"، فرجعتْ قرونا إلى الخلف، حين لم تتمكن هذه الحضارة أنْ تعيد بناء الذات عندما تغيّر العالم من حولها ولم تعد هي من ينتج التعريفات والمعايير فيه.

اضافة اعلان

السرّ الذي أنتج الحضارة العربية الإسلامية كان مفاده: القوي من ينفتح على الآخرين ويعتقد أن المعرفة والحقيقة موزعة وليست حكرا لطرف واحد، والضعيف من يخاف على ذاته من الآخرين، ويتقوقع على نفسه واهماً بأنه مكتفٍ بما لديه وأنه لا حاجة له لأخذ الدروس من الآخرين.

زمن الصعود الحضاري، كان حب المعرفة فيه أقوى من الخوف على الذات والهوية، بل إنّ هذا الحب المعرفي والانفتاح الثقافي على ثقافات الأمم الأخرى هو ما قوّى الذات، وبدلاً من أرتال الكتب عن "الغزو الفكري" كنّا نجد أمثال البيروني من يبحثون، على سبيل المثال، في وثنيات الهند وثقافات أهلها الدينية وهو ما سطّره في كتابه : "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".

الانفتاح أو الانغلاق محددان أساسيان للحكم على أيّ فكر إنْ كان حافزاً على التقدم أو معرقلا ومعوقا له. وهذا الانفتاح والانغلاق معيار الإجابة عن تساؤل مهم وهو: لماذا تم اختطاف فكرة النهضة والإصلاح التي دعا إليها الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما لتصبح الفكرة أكثر تشددا وسلفية على يد من جاء بعدهم؟!. وفي هذا الصدد يقول رضوان السيد إن "محمد عبده كان متقدما على محمد رشيد رضا، والأخير كان متقدما على حسن البنا، والبنا كان متقدما على سيد قطب، والأخير كان متقدما على عمر عبد الرحمن" وهكذا... ومن أول ما تتشدد فيه الأفكار والحضارة حين تنغلق الفنون النظرة إلى المرأة والحريات الشخصية. وهذا أيضا محدّدٌ أساسي في الحكم على الأشياء ونقدها، وهو ما دفع الباحث العراقي رشيد الخيون لأنْ يصف انفتاح الحضارة العربية الإسلامية عند صعودها بأنها "جمعت بين ثنائية الفقيه والموسيقيّ". وذهب الباحث التونسي محمد الحداد إلى أبعد من ذلك بالتأكيد أن التفوق الإيماني وحده لا يستلزم بالضرورة تفوقا حضاريا ( اجتماعيا وسياسيا وفكريا). ولذا فهو يميّز بين مستويات ثلاثة في معنى الدين: أي الدين من جهة كونه معطى إيمانيا ذاتيا، والدين من جهة كونه معطى اجتماعيا وثقافيا، والدين من جهة كونه مخزونا نفسيا للتحريض والمقاومة. ولم يتحول الدين، برأي الحداد، من شعورٍ إلى معرفة ٍ ( تحضّ على التقدم والإبداع والإنتاج الحضاري) إلا باقتباس المعارف الكونية التي كانت متاحة في حدود العصر الوسيط، ومنها الفلسفة والآداب والعلوم.

قصارى القول: إن الأفكار تزدهر والحضارات تتسع حين لا تضيق بأحد، فيجد فيها الجميع متسعا يضمهم ويحميهم بقوة القانون، ومتى زاد الضيق كانت الأفكار والحضارات والدول إلى الأفول أقرب.