جدل المصالح: "القدسنة" وإيهام الجماهير

د. نارت قاخون

حين ينشر أحدنا أفكاره وآراءه لتصل إلى النّاس، فإنّه يسعى لتحقيق استجابات منهم بالضرورة، وإلا لاكتفى بـ"حديث النفس"، و"الخلوة مع الذّات" ولم يتكلّف أن ينشر كلامه ويصل به إلى جموع النّاس، لذلك فكلّ من ينشر كلاماً فهو يريد شيئاً من النّاس وإن ادّعى خلاف ذلك.اضافة اعلان
لكن ماذا يريد من النّاس؟ تتعدّد الإجابات وتختلف، ولكن يُمكن تصنيف هذه الغايات في مجموعتين؛ المجموعة الأولى هي تلك الغايات التي يُمكن وصفها بـ"الغايات المعلنة المثاليّة"، وهي ما تشترك رغم تعدّدها بـ"الغايات والمصلحة العامّة"، أي تلك الغايات التي تُظهر الكاتب أو المثّقف لا يسعى لمصالحه الشخصيّة، بل يسعى لمصالح عامّة، فتكون في الظاهر المعلن لأجل "الجماعة" لا "الفرد"، فإن ارتقت فلأجل "المجتمع" لا "الجماعة"، فإن ارتقت فلأجل "الوطن" لا "المجتمع" وحسب، وتستمرّ في التوسّع حتى تكون لأجل "الأمّة" أو"الدّين" أو "الإنسانيّة" أو "الله".
هذه المجموعة من الغايات "الظاهرة المعلنة" لن تجد كاتباً أو جماعة أو حزباً يسعون لنشر فكرٍ ما إلا وهم يدّعونها؛ فالخير والمصلحة وعمومهما غايات يدّعيها الجميع حتى لو كانت الدعوات متناقضة.
تحت هذه الغايات الظاهرة المعلنة تكمن غايات غير معلنة، عادة ما يتمّ التبرؤ منها، وهي المجموعة الثانية من الغايات التي تُصنَّف بـ"الغايات والمصلحة الشخصيّة"؛ فقد تكون غاية الكاتب أو المثقّف أو الحزب أن يحقّق "المجد الشخصيّ" على اختلاف أشكال هذا المجد من "الشهرة" و"المال" و"السلطة" و"البطولة" ممّا يتطلّب "كسب الجماهير مع القدرة على التأثير فيهم".
في صراع "الأفكار" و"الغايات" و"المصالح" يسعى كلّ كاتب أو جماعة إلى إظهار انتمائهما إلى مجموعة الغايات الأولى الموصوفة بـ"الشرف والسمو"، مقابل إظهار "المخالفين" بانتمائهم إلى مجموعة الغايات الثانية الموصوفة بـ"الخِسّة والدنوّ".
هذه مفارقة "نظريّة" بين مجموعتي الغايات يسهل ادّعاؤها في مستوى "الشعارات". ولكن واقع الخبرة الإنسانيّة وتجارب الفكر والرأي والتغيير يخبرنا أنّ تقاطع "المصالح الشخصيّة" مع "المصالح العامّة" كان موجوداً في كلّ "دعوة تغييريّة إصلاحيّة" -بغضّ النّظر عن مفهومها للتغيير والإصلاح- حتى لو كانت المصلحة أن يوصف الشخص بـ"الفدائيّ" الذي يختار التضحية بنفسه لأجل عموم النّاس وخيرهم.
آفة "المثاليّة النّظريّة" التي تتمتّع بجاذبيّة وجدانيّة ومشاعريّة عند أكثر النّاس أنّها تجعل القيم الإيجابيّة محصورة في "الغايات العامّة"، بينما توصَف "الغايات الخاصّة" بالقيم السلبيّة، وهذه قسمة نظريّة لا أكثر تحتفي بها "المثاليّة النظريّة" لإخفاء تقاطع المصالح الشخصيّة مع المصالح العامّة، حتى صارت "الازدواجيّة والنفاق" تُهماً جاهزة ترى أنّ "أفعال النّاس" محكومة بالمصالح الشخصيّة، بينما "أقوالهم" محكومة بادّعاء المصالح العامة. وهنا أعود لتأكيد أنّ نجاح أيّة فكرة أو دعوة أو حركة تغييريّة كان وسيظلّ مشروطاً بقدر من التحالف والتواطؤ بين "المصالح العامة" و"المصالح الشخصيّة"، وافتراض أيّة فكرة أو دعوة أو حركة تغييريّة خالية من "الغايات الشخصيّة" افتراض لا محلّ له في واقع الخبرة الإنسانيّة والمجتمعيّة.
إذا كان الأمر كذلك فإنّ هذا التحالف الواقع بالضرورة بين الغايات يتّجه اتّجاهين يُمكن وصف أحدهما بالإيجابيّ والآخر بالسلبيّ. أمّا الإيجابيّ فهو أن تتحالف "مصالح عموميّة حقيقيّة" نابعة من واقع اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ مع "مصالح شخصيّة" نابعة من الطموح الشخصيّ، وفي هذه اللحظات من التحالف والتقاطع صُنعت كثير من أحداث التغيير الإيجابيّة الكبرى في مسيرة التاريخ.
أمّا التحالف السلبيّ فهو نتاج "إيهام" أصحابِ المصالح الشخصيّة "جمهوراً" من النّاس أنّ هذه "المصلحة الشخصيّة" هي "مصلحة عامة للجمهور"، وهذا ما نكنّي عنه بـ"ركوب الأمواج"، و"استغلال الجماهير واستغفالهم".
ولهذا التحالف السلبيّ الإيهاميّ نماذج كثيرة في الخبرة الإنسانيّة أيضاً، وهنا تظهر قضيّة "قيادة الجماهير" وتوجيههم لتكون وسيلة لتحقيق المجد والمكاسب الشخصيّة، فكما يقول الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد: القائد الجماهيريّ الساحر هو ذلك القائد الذي يستطيع إقناع الجماهير أنّ معالجته لـ"آلام أسنانه" هي حركة لأجل إصلاح العالم"!
ولكن كيف يستطيع "القائد الساحر" أن يوهم الجمهور أنّ "معالجة القائد لآلام أسنانه" -وهي كناية عن المصلحة الشخصيّة بصورة كاريكاتوريّة- هي حركة إصلاحيّة تسعى للنفع العام؟
الجواب هو: "القدسنة"، أي تحويل الغايات الشخصيّة إلى "غايات مقدّسة" في الوجدان الجمعيّ. والغايات المقدّسة في وجداننا الجمعيّ العربيّ والإسلاميّ ترتكز أكثر ما ترتكز على "المقدّس الدّينيّ"، لذلك لا يزال "الدّين" أكبر غطاء وأنفع "شعار" في كسب معركة الجمهور، وإيهامه أنّه يخوض معركة "مقدّسة".
وقبل أن يذهب ذهن القارئ فيظنّ أنّ هذا "التوظيف للدّين" يقتصر على "الإسلام" أقول إنّ هذا التوظيف عام في كلّ دين يشكّل في مجتمع من المجتمعات مرجعيّة وجدانيّة ومصدراً للتقديس، وأضيف للتوضيح أنّ توظيف "المقدّس الدّينيّ" ليس فعلاً سلبيّاً بالضرورة دوماً، فالعيار الذي يفرّق بين التوظيف الإيجابيّ والسلبيّ هو ما ذكرتُه من عيار التفريق بين التحالف الإيجابيّ والتحالف السلبيّ بين المصالح العامة والخاصة؛ فـ"الحركات الدّينيّة" سواء "المحافظة" أم "الإصلاحيّة" قد تكون حالة تغييريّة إيجابيّة متى كانت أهداف "دعاتها" الشخصيّة الفكريّة والنفسيّة والماديّة والسياسيّة متقاطعة مع مصلحة مجتمعيّة حقيقيّة، فما الذي يمنع أن تكسب "الحركات ورموزها" مجداً شخصيّاً إذا ترافق مع "مجد مجتمعيّ أو مجدٍ وطنيّ أو أمميّ" أو "إنسانيّ"؟
والسؤال الآن هو: كيف تتم "قدسنة الغايات"؟
للإجابة عن هذا السؤال أبدأ بتقرير أنّ اندفاع الجماهير نحو "غايةٍ ما" لا يكون إلا لتغيير "واقع" أصبح مرفوضاً لعجزه عن تحقيق المصالح العامّة والخاصّة؛ فالاندفاع التغييريّ يحتاج قدراً من "الإحباط" و"انسداد الآفاق" ليحرّك الجماهير نحو "مستقبل موعود" يفتح الآفاق وفرص الكسب والعيش الرغيد.
وعلى هذا التقرير فإنّ آليات "القدسنة"، وكيفيّة اشتغالها تمرّ عبر مكوّنات، منها:
- تحويل الغايات من "مقترحات" إلى "إلزامات" ليس المطلوب أن يقتنع النّاس بها وبمنطقيّتها وواقعيّتها، بل "الإيمان بها" و"الامتثال لها"، ممّا يجعل أيّة محاولة نقد ونقاش واختلاف مع هذه الغايات "تشكيكاً في الدّين"، و"تدنيساً للمقدّس"!
- التأكيد على قوّة التغيير وسرعته بالمبالغة في إظهار المفارقة بين "الواقع المرفوض" و"المستقبل المنشود"، والمبالغة في سرعة تحقّق التحوّل؛ وهنا يشتغل بعض منتجي "الخطابات الدّينيّة" على هذه الآلية من آليات "القدسنة"؛ فيصفون الواقع بأنّه "واقع جاهليّ" يغترب عن "الحكم الإسلاميّ" و"الأحكام الدّينيّة" تنتشر فيه مظاهر "الانحلال الدّينيّ والخلقيّ"، بينما "الغاية المنشودة" هي "واقع إسلاميّ" يحتكم إلى "الشريعة الإسلاميّة"، وعبر اختزال "الدين والأحكام الشرعيّة" بأحكام "مظهريّة طقوسيّة"، وإحالة قوّة التغيير إلى "القدرة الإلهيّة" تصبح الدعوة إلى تمكين "الجماعات الإسلاميّة" من الحكم دعوة سحريّة تعني انتصار الدين وإعلاء كلمة الله الذي سيغيّر الحال إلى خير حال، وتصبح الثقة بالله ضامنة للحركات الدّينيّة في دعوتها وسعيها للسلطة والمال!
- المماهاة بين "الأشخاص" و"الجماعة" و"الأفكار" من جهة و"المقدّس" من جهة أخرى، فيصبح الموقف من الأشخاص والجماعات والأفكار موقفاً من المقدّس نفسه، فإذا كان المقدّس دينيّاً صار الداعية إلى أفكاره بـ"اسم الدين" هو "الدّين" نفسه، وإذا كان المقدّس وطنيّاً صار الداعية إلى مصالحه باسم الوطن هو "الوطن" نفسه، وتصبح مخالفتهما "خروجاً عن الدين" و"خيانة للوطن"!
- الاعتماد على "المشاعر الحارّة والصخب والتهييج" لا "الأفكار العقلانيّة" في إنشاء الخطابات، فكم من "خطيب مفوّه" استطاع بـ"صوته" لا بـ"فكره" أن يكسب معركة "التصفيق" و"قيادة الجماهير"، مقابل عالم أو مفكّر يُخاطب العقول دون ضجيج صوتي وإثارة المشاعر الحارّة.
عبر "القدسنة" تستطيع فئة أن تحقّق "أسمى" الغايات في تقاطع العام مع الخاصّ، وتستطيع أن تحقّق "أخسّ" الغايات أيضاً، والعيار الفارق هو صدق دعاة التغيير مع أنفسهم ومجتمعاتهم من جهة، ووعي النّاس لحقيقة المصالح العامة التي تجمعهم، وإدراكهم "الإيهام" و"الخداع" الذي يكمن وراء تلك الدعوات؛ فـ"البضاعة الفاسدة" لا تروج إلا بتقاطع "طمع التّجار" و"غفلة الزبائن".
ودون ذلك سينجح "راكبو الأمواج" تاركين الجموع والشعوب لتغرق في تلاطم الأمواج.