جرش.. سبع صنايع

في ثقافتنا الشعبية، عندما لا يكون الإنجاز بمستوى القدرات، وتكون أسباب النجاح متوفرة لكن لا يتحقق، يلقي الناس بالمسؤولية على الحظ، فيقولون "سبع صنايع.. والبخت ضايع". وهذا ما ينطبق على محافظة جرش التي تتوسط مدن الأردن الرئيسة، وتتمتع بخصائص تاريخية وسياحية وثقافية وحرفية وزراعية وجمالية وبشرية قل نظيرها.اضافة اعلان
فما إن تطل على المدينة التي تتسلق مبانيها سفوح التلال الممتدة شرقا وشمالا وغربا، حتى تتبدى لك جرش وحدودها وخضرتها الأزلية الساحرة. فقد أقيمت بجانب إحدى أقدم المدن التاريخية التي ما تزال أعمدتها شامخة، رغم تعرضها لعشرات الهزات منذ تشييدها قبل ما يزيد على ألفي عام.
أمس، كنت في زيارة لجرش بصحبة ثلة من الخبراء الدوليين، والتقيت بعدد من رجالاتها وحرفييها والأدلاء السياحيين والفنانين هناك، وبعض الذين اتجهوا إلى ميدان التصنيع الغذائي. وجرى حديث مطول عن طبيعة المكان، ونظرة أهله له ولأنفسهم، وأوضاع الشباب والفرص التي يرونها لاستثمار طاقاتهم، والتحديات التي تواجههم، وتكتيكات البعض التي قادتهم إلى البقاء بالرغم من الهزات التي أصابت الأسواق وأخلّت بمعادلة العرض والطلب التي يحرص المخططون والتنمويون في البلدان المتقدمة على تجنب اختلالها.
زيارتنا ليست الأولى؛ ففي السنوات الأخيرة، زار المحافظة العشرات من الوفود الوزارية والخبراء في التنمية والتخطيط، في مساع للتعرف على الواقع والاحتياجات والمطالب والفرص التنموية للمدينة وما حولها، وللوقوف على التحديات التي تعترض ترجمة الأفكار إلى مشروعات تعود على جرش وأهلها بالخير والنفع والازدهار.
في كل مرة يعرض الأهالي أفكارهم ومشروعاتهم ومقترحاتهم، ويدونها الوزراء والخبراء، لكن يذهبون وقد لا يعودون مرة أخرى، فلا يعرف الناس مصير أقوالهم ومقترحاتهم، ولا أين ذهب الأشخاص الذين جاؤوا، ولماذا غابوا ولم يعودوا. ويستغربون كيف يأتي فريق آخر من الجهة ذاتها ليطرح الأسئلة نفسها، كما يبدي الدهشة نفسها، ثم يختفي من غير رجعة!
على طول الطريق الممتدة من بوابة جامعة فيلادلفيا وحتى منطقة المطاعم التي تتقابل عند مدخل جرش الجنوبي، ترى منتجات المدينة الزراعية معروضة على جانبي الطريق، وعلى طول العام. فاليوم، ترى الزيتون الأخضر والأسود، إلى جانب الرمان والباذنجان الأسود الذي تخصصت جرش في زراعته وتخليله، بعد إضافة الزيت والجوز والمطيبات الأخرى. هذا إضافة إلى أكشاك المخللات والفواكه المجففة ومعاصر الزيتون ومشاتل النباتات والأشجار المثمرة التي تدلل على رغبة الناس في صناعة الحياة وتجديدها.
تحتاج جرش التي أحب الأردنيون مذاق لبنتها ومقدوسها وزيتونها ومطاعمها، وشاهدوا حقول خضار الخريف وزهرات الطيون الصفراء المورقة على مداخلها، إلى خبراء في تنمية المشاريع، ليساعدوا الأهالي على تطوير منتجاتهم، وإيجاد علامات خاصة لها لتمييزها. كما يحتاجون دعما ماليا وفنيا للتوسع والتحسين للإنتاج ليصبح الدخل مجديا، وإلى فتح أسواق محلية وخارجية لمنتجاتهم.
يشكو الحرفيون من المنافسة وإغراق الأسواق بمنتجات صينية وتركية ومصرية. ولدى الكثيرين منهم إحساس بأن لا أحد يستمع أو يكترث لمطالبهم ومعاناتهم. وقد مل العديد منهم حملات العلاقات العامة التي يقوم بها مسؤولون من وقت لآخر، ورحلات البحث والتعرف والاستقصاء التي لا تنتهي.
التنمية المتوازنة تقوم على العمل مع الناس، والاشتباك اليومي معهم، للتعرف على احتياجاتهم ومطالبهم، والعمل على تلبيتها، وتحديد المشكلات وحلها على الأرض، لا التنظير والوعود. فالتنمية ليست خططا وأرقام نمو وتقارير، بل توظيف حقيقي للمال والوقت والجهد في التفاعل مع البيئة ومواردها، من أجل سعادة ورفاه الإنسانية، واستدامة البيئة، وضمان إطار قيمي يحكمه الصدق والثقة والعدل، والسعي إلى تحسين الدخل والنهوض بنوعية الحياة.
في جرش جميع الموارد متوفرة، بما في ذلك استعداد إنسانها للعمل، ورغبته في الإنجاز والتطوير. لكن الغائب الوحيد هو البرنامج التنموي الشامل الذي يحدد الموارد، ويعرف الاحتياجات، ويعمل على دمج المجتمع وفئاته المختلفة في مشروعات يلمس الناس عوائدها وآثارها؛ ليس على شاشات العرض الإلكترونية، بل في المزارع ومعامل الحرفيين ونوادي الشباب، وبين تعاونيات النساء اللواتي يخللن الزيتون، ويمزجن السماق بالزعتر، ويحضرن دبس الرمان، ويعتنين بالأبقار والماعز الشامي؛ برنامج يعكس نفسه على البيئة الجرشية ومظاهر حياة أهاليها.