جريمة التعليم الكبرى

يسألني الصديق س.ع. كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام من أين يأتي – يا أخي- كل هذا التعصب الأعمى الذي قلما يخلو منه احد مسلم منا، فأنت تجد حتى أكثر المسلمين تعلماً كجملة التلاميذ والمعلمين والمعلمات في المدارس، وجملة الطلبة والأساتذة والأستاذات في الكليات والجامعات، وجملة المرضى والأطباء في العيادات والمستشفيات، وجملة الصيادلة في المستودعات والصيدليات ومصانع الأدوية، وجملة المهندسين في المكاتب والشوارع... متعصبين تصعباً أعمى للسلف (وضد المرأة وأصحاب الديانات والأيدلوجيات الأخرى...) والدليل عليه أنك ما إن تستشهد بمعلومات مختلفة من التاريخ المعتمد كتاريخ الطبري، أو مروج الذهب للمسعودي، أو الكامل لابن الأثير... عن السلفي فلان الذي تآمر ضد الخليفة عثمان – رضي الله عنه- أو عن السلفي علاّن الذي شارك في حصاره وقتله، أو عن السلفي الآخر الذي منع دفنه في مقبرة البقيع فدفن في مقبرة اليهود، بعد ثلاثة أيام من قتله، حتى يهب هؤلاء في وجهك أو يثبوا عليك صارخين: هذا كذب. هذه فبركة من أعداء الإسلام والمسلمين لأنه لا يمكن لسلفي أن يقوم بمثل ما ذكرت؟ قلت له: هذا التعصب الأعمى هو نتاج ما تعلموه في المدرسة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والكلية، والجامعة، وعززته الإذاعات، وقنوات التلفزيون، والجرائد، وخطب الجمعة... أن السلف كانوا كأنما هم معصومون من الخطأ، فعلق هذا التعليم في أذهانهم وحَفَرَ فيها ونَقَش.اضافة اعلان
لم تُعلّمهم المدرسة والكلية والجامعة البحث والتنقيب والرجوع إلى المصادر والمراجع ذات العلاقة لمعرفة الحقيقة أو فيما إذا كانت هناك معلومات أخرى. وهكذا يُصدمون عندما تفاجئهم بغير ما تعلموا ويتزلزلون. وربما ينضمون إلى طالبان أو القاعدة أو داعش إعمالاً له.
ذلكم هو التعصب الأعمى وجريمة التعليم القائم على تعليم التاريخ (وغيره) بصورة انتقائية، فقد جَملت المدرسة والكلية والجامعة وما في حكمها من إعلام وخطب جمعة ووعظ وإرشاد هذا التاريخ ومكيجته، وأضفت شكلاً من القداسة عليه، فبدا السلف للمتعلمين بخاصة وللمجتمع بعامة معصومين لا يخطئون، ولا يختلفون، ولا يتنافسون، ولا يتقاتلون.
ومنذ أن نشأت المدرسة الحديثة والكلية والجامعة والإعلام.. في بلاد المسلمين وهي تعلم التاريخ (وغيره) هكذا. وهكذا تكونت وما تزال عقلية مغلقة متعصبة جداً عند المتعلم (والمسلم العادي) هي أشبه "بالقاصة" المغلقة على الثروة أو الكنز ثم ضاع مفتاحها.
إن المتعلّم يعتبر التاريخ (وغيره) الذي تعلمه في المدرسة (والكلية والجامعة)... البداية والنهاية فلا يضاف إليه ولا يعقّب عليه، ومن ثم فإنه لا يحتاج إلى أو لا يكلف نفسه قراءة مصدر أو مرجع آخر، أو رواية تاريخية مغايرة مثل رواية: رحلة الدم والقتلة الأوائل للأستاذ إبراهيم عيسى.
وعندما يجرؤ أحد المسلمين على المخالفة فإنه يتعرض لاتهامات عديدة مثل وصفه بالضال، أو بالمضلل، أو بالحاقد، أو بالمرتد، أو بالكافر. ولشدة التعصب وتحكمه القوي بالعقل أو التفكير لا يسمح المتعلم لنفسه بالاستماع لمعلومات جديدة مختلفة أو مخالفة أو بقبولها، بل قد يغتال صاحبها إذا وجد مفتاح "القاصة". وكأن المطلوب الإشادة الدائمة بالجانب المشرق من التاريخ حتى لا يعرف الأجانب عن الجانب المظلم فيه وكأنهم لا يعرفون منه أو عنه أكثر من أصحابه. أو كي لا يرتد المسلمون، أو يفشل الإسلاميون في الانتخابات.
لقد صار التاريخ - وما في حكمه - يكتب اليوم بلغة صحيحة سياسياً أي دون إخفاء أو مبالغة أو رتوش وقد أطلعت على كتب التاريخ المدرَّس في الصفوف الابتدائية في بريطانيا، فوجدت أنها تتحدث عن الحروب الصليبية بصورة أصدق وأفضل مما تتحدث عنه الكتب المسلمة ذات البعد الواحد. كما وجدت في أحد الكتب المدرسية الأميركية مقارنة بين الوصايا العشر لموسى عليه السلام وشريعة حمورابي. لم يحدث زلزال في بريطانيا ولا في أميركا نتيجة هذا الشكل الجديد السليم من التأليف ولم يرتد المسيحيون هناك عن المسيحية.
إن تعليم التاريخ باللغة الصحيحة مفيد للأبناء، والبنات، والأحفاد، والحفيدات بالتعلم من أخطاء وصوابات الأجداد لأن من لا يتعلم من التاريخ يرسب فيه ويكرره كما يقول جورج سنتيانا.
عدت لصديقي السائل وقلت له: يجب أن نرثي لأنفسنا فنحن ضحية مرتين لجريمة التعليم الكبرى: مرة لهذا التعليم، وأخرى لرفضنا تحرير عقولنا ولاستمتاعنا بدور الضحية التي لا نقبل عنها بديلاً.