جعبة شارون خاوية من أي انفراج سياسي

طالما ان غالبية المحللين والمراقبين يصرون على وصف انشقاق رئيس الحكومة الاسرائيلية، اريئيل شارون، عن حزبه "الليكود"، بـ "الهزة السياسية"، و"الزلزال السياسي" و"العاصفة"، فعليهم ان يعلموا ان بعد هذه الظواهر "الطبيعية" يسري هدوء، وهذا ما يجري في الحلبة السياسية الاسرائيلية غير الثابتة، التي يكفي أي تحرك سياسي فيها ليخلق عواصف تؤججها وسائل الاعلام الاسرائيلية النشطة، وتدعمها وسائل الاعلام العالمية التي ترصد كل حركة في هذه الدولة، بؤرة ومصدر النزاع الاساسي في الشرق الأوسط.

اضافة اعلان

وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ اسرائيل التي يعلن فيها رئيس حكومة، لا يزال في منصبه ويتزعم الحزب الأكبر الحاكم، انشقاقه عن الحزب، ولكنه ليس الانشقاق المركزي والهام الوحيد في تاريخ الخارطة السياسية في اسرائيل، ولهذا فإن تجارب الماضي ستلعب دورا في تقييم خطوة شارون ومصيرها على الأمدين القريب والبعيد.

لقد أعلن شارون انه لم يعد بإمكانه مواصلة تزعمه لليكود، على ضوء حالة التمرد التي واجهها في كتلة الحزب البرلمانية، على خلفية ما يسمى بـ "خطة الانفصال"، التي ظاهرها اخلاء مستوطنات قطاع غزة، وفي جوهرها محاصرة وخنق القطاع، واستكمال السيطرة على حوالي 60% من اراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، إلا ان المتمردين، من عناصر اليمين "حاميي الرؤوس"، لم يتفهموا خطة قائد الاستيطان التاريخي اريئيل شارون، الذي بخطته لم يخنهم، بل اراد "الاستغناء عن القليل من اجل الاحتفاظ بما هو أكبر"، حسب ما ردده شارون مرارا.

وكان الليكود قد واجه في 2002 عملية تغلغل من اوساط المستوطنين والحركات المتطرفة وحتى الارهابية بهدف التأثير على هيئاته، وهي تواصل سيطرتها على مؤسسات الحزب وتدعم الجناح اليميني المتطرف في الليكود وتفرض قرارات لا تعكس مزاج غالبية مصوتي الليكود، ولهذا فإن شارون كان طوال الوقت على يقين بأن خطواته المبنية على اسس ايديولوجية صهيونية يمينية تحظى بتأييد غالبية المصوتين للحزب، لا بل انه تمكن من جرف اوساط من مركز الخارطة وحتى اطراف يسارية صهيونية، تحت غطاء اخلاء مستوطنات قطاع غزة.

إن الانشقاق في الليكود كان مسألة وقت، ولكن ما ساهم في تضخيم الحدث، هو ان الأغلبية هي التي انشقت عن الأقلية، وخرجت من الحزب، فشارون عرف ان الاغلبية بين مصوتي الحزب هي عمليا اقلية في مؤسسات الحزب وعضويته، ولو غامر شارون وتنافس على زعامة الليكود وخسر، فإن القانون الاسرائيلي يمنعه من اقامة حزب بديل فورا لخوض الانتخابات البرلمانية، وهذا ما أراد شارون تداركه.

وبطبيعة الحال فإن استطلاعات الرأي تتأثر فورا من أي ضجة اعلامية، ولهذا فقد منحته استطلاعات الرأي، في اليوم التالي للانشقاق، 33 مقعدا، من اصل 120 مقعدا، وهبط الليكود من 40 مقعدا الى 15 مقعدا، وحزب العمل الذي يشغل الآن 21 مقعدا وتنبأت له استطلاعات الرأي في الاسبوع الماضي 29 مقعدا، "خسر" خلال اسبوع واحد 10% من الأصوات وهبط الى 26 مقعدا، وهذا نموذج حي للتخطبات الحاصلة في الشارع الاسرائيلي وسرعة تقلبه، حسب الضجة الاعلامية.

ولهذا فمن السابق لأوانه الحكم على حجم حزب شارون الجديد، وعلى الانهيار المتوقع لليكود، وتجارب الماضي بغالبيتها تثبت انه بعد الضجة الاعلامية والهيجان ستتضح معادلات أخرى، فمثلا في العام 1965 انشق "مؤسس اسرائيل" وأول رئيس حكومة لها، دافيد بن غريون عن حزب "المباي" (العمل حاليا)، وتنبأ له المراقبون نتيجة عالية ولكنه لم يحصل على اكثر من 10 مقاعد وتلاشى لاحقا، وفي العام 1977 بلورت عدة شخصيات سياسية وعسكرية بارزة جدا حزب "داش"، وايضا لاقى نفس التنبؤات ولكنه حصل على 15 مقعدا، واختفى عن الساحة السياسية في انتخابات العام 1981، وفي العام 1999 ظهر "فجأة" حزب المركز الذي تشكل من عدة شخصيات من شريحة "النخبة السياسية والعسكرية"، فتنبأت له استطلاعات الرأي حتى 18 مقعدا، ولكنه حصل على 7 مقاعد، ولم يستكمل الدورة البرلمانية وانهار في منتصف ولايتها.

هذه "الصورة" لن تكون بعيدة عن الوضعية الحالية التي يقع في مركزها شارون، خاصة وانه ليس من السهل على هذا الحزب اقامة الجهاز التنظيمي القادر على ترجمة نتائج استطلاعات الرأي في صناديق الاقتراع يوم الانتخابات، إلا في حال امتد انشقاق شارون الى فروع الليكود، كذلك فمنذ اللحظة الاولى نحن نعلم ان هذا الحزب اقيم حول شخصية واحدة اسمها اريئيل شارون، ابن 77 عاما، واحزاب كهذه تبنى على برنامج شخص لن تدوم طويلا، وحتى استمرارها بعد اربع سنوات هي مسألة مشكوك فيها جدا، ايضا هنا اعتمادا على تجارب الماضي.

السؤال الأهم بالنسبة لنا في هذه "العاصفة" السياسية هو الجانب السياسي. ومن ينظر الى برنامج شارون السياسي وما ينفذه حاليا في الضفة الغربية هضبة الجولان، وحتى حول قطاع غزة يدرك تماما انه ليس على اجندة شارون سوى نسف أي احتمال لإبرام اتفاق حل دائم مع الفلسطينيين، على اساس إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، وحل قضية اللاجئين وتفكيك المستوطنات وغيرها.

فاليوم تجري في الضفة الغربية ثلاثة مشاريع استيطانية مركزية، هي عمليا تنفيذا لمخطط شارون "التاريخي" القاضي بالانسحاب من 42% فقط من الضفة. المشروع الأول بتر الضفة الغربية الى منطقتين شمالية وجنوبية، من خلال حزام استيطاني ضخم في مركزه القدس المحتلة، ويبدأ، من مستوطنات غربي بيت لحم والقدس، مرورا بالمدينة المحتلة ووصولا الى مشارف البحر الميت عبر مستوطنة معاليه ادوميم، بما يشمل فصل الأحياء العربية في القدس عن مركز المدينة.

والمشروع الثاني بتر المنطقة الشمالية الى منطقتين او ثلاث، لتحويل شمال الضفة من رام الله وحتى جنين الى كانتونات مغلقة من خلال "مخطط الاصابع" الاستيطاني، وهو عبارة عن تكتلات استيطانية صغيرة على شكل اصابع من الغرب الى الشرق.

والمشروع الثالث هو مشروع جدار الفصل العنصري الذي يقتطع مساحات شاسعة من غرب الضفة الغربية، ولكن بالاساس من شرقها، بعد فصل منطقة غور الاردن كليا عن سائر انحاء الضفة الغربية.

لقد ركز شارون في خطابه السياسي، الذي اعلن فيه رسميا انشقاقه، على ما يسمى بـ "خارطة الطريق"، ولكنه لا يقصد حتى النص الاصلي للخطة، الذي هو اشكالي جدا من رؤية فلسطينية، وانما يقصد الخطة بموجب التحفظات الاسرائيلية الـ 14 التي تفرغها من مضمونها المختلف عليه اصلا، وتتعلق بالاساس بالاستيطان وتوسيعه.

ليس في جعبة شارون سياسيا ما هو ابعد مما سبق، وهذا برنامج نشأ اساسا في معسكر اليمين، وإذا ما احتل حزب شارون المكانة الاولى في الانتخابات المقبلة فإنه سيبحث عن الشركاء الذين سيوافقون على برنامجه، وسيجد الاغلبية له، فهناك من سيؤيده في هذا البرنامج كسقف أعلى، وهناك من سيدعمه "كخطوة مرحلية اخرى"، مثل اليسار الصهيوني.

إن الوصف الأدق لخطوة شارون، هو "تشقق محدود في معسكر اليمين"، وهو ابعد من تصدع، وتشققات كهذه بالإمكان "معالجتها" ولن نستغرب إذا رأينا حزب الليكود ينضم الى حكومة شارون، "من جديد" في حال شكل الحكومة، بعد كل هذه "الزّفة" السياسية!

*صحافي فلسطيني وكاتب سياسي مقيم في الناصرة

[email protected]