جورجيا تشعل الحرب الباردة

بعد أزمة البلقان عادت أزمة أوسيتيا وأبخازيا وجورجيا لتزيد التوتر الدولي والاستقطاب الحاد بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن العالم يتطلع لعودة هذه الحرب ويرى فيها أمانا وتوازنا، فقد كانت نهاية هذه الحرب بداية لحالة من الفوضى والشك والتفرد الأميركي المزعج للعالم كله تقريبا، وكشفت أيضا أن الجماعات المسلحة كانت أكثر انضباطا وأنها في المرحلة الجديدة قد انطلقت بلا عقال أو تنظيم حتى أصبحت تهديدا عالميا مربكا، وربما تكون عودة الحرب الباردة أكثر أمانا وتنظيما للعالم.

اضافة اعلان

ولكن يستبعد كثير من المحللين عودة الحرب بعد أن مضى العالم في حالة لا رجعة فيها من الاعتماد المتبادل والتداخل الاقتصادي والمعلوماتي، وأصبح التنافس العالمي يتخذ أشكالا ومضامين مختلفة عن المرحلة السابقة.

ذلك أن نهاية الحرب الباردة لم تكن مجرد انتصار وهزيمة، أو توجهات سياسية عالمية جديدة، ولكنها حالة سياسية واجتماعية وثقافية تشكلت حول الاقتصاد الجديد (اقتصاد المعرفة) وتقنياته المتمثلة في الحوسبة والمعلوماتية والعولمة، والتي غيرت كل شيء، وفي المقابل فإن روسيا كسبت حلفاء جددا ومهمين مثل إيران والصين، وربما الهند، وأميركا اللاتينية، وأنها تستطيع بالتحالف مع هذه الدول تشكيل جبهة عالمية أكبر اقتصاديا وسياسيا وسكانيا.

كما أن الاقتصاد الروسي والإيراني بالإضافة إلى الاقتصاد الصيني والهندي يشهد حالة غير مسبوقة من النمو، فقد استفادت كل من روسيا وإيران من ارتفاع أسعار النفط في إعادة تنظيم اقتصادها ومؤسساتها وبناء وتحديث جيوشها وقواتها العسكرية والدفاعية.

ويبدو ثمة حنين قومي وعاطفي لدى القادة الروس السياسيين والعسكريين للعودة إلى مرحلة الدولة العظمى، واستدراك الجرح والهزيمة التي لحقت بالاتحاد السوفياتي، يقول الرئيس الروسي بوتين: إن انهيار الاتحاد السوفياتي "كان أكبر كارثة في تاريخ روسيا"، ويبدو أن روسيا حسب ما يقول الخبير الألماني نوينيك في مقابلة مع موقع مجلة دويتش الألمانية قد بدأت في مرحلة جديدة لتطوير أسلحتها.

ويقول بوتين: لا أحد يشعر بالأمان في عالم أحادي القطب.. إن عالما أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الأميركية أمر لا يمكن القبول به، وقد أدى إلى المزيد من الحروب

الواقع أن الأزمات الروسية مع الولايات المتحدة وأوروبا كثيرة ومعقدة، وإن كانت تجري إدارتها بصمت، ولكن طفا على السطح منها أزمات كثيرة، مثل توريد ونقل الغاز، وتصدير اللحوم البولندية إلى روسيا، وبعد استقلال كوسوفو عن صربيا أعلنت روسيا أنها سترد على هذا الاستقلال، ويبدو أنها ترد الآن في جورجيا.

ومضت روسيا في اتفاقيات وإجراءات جديدة تعزز من موقفها التفاوضي مع أوروبا وتغير قواعد اللعبة، فقد وقعت الحكومة اتفاقا مع كل من تركمانستان وكازاخستان بشأن أنبوب لنقل الغاز، وسيزيد هذا الاتفاق من حاجة الاتحاد الأوروبي لروسيا لضمان توريد الغاز إليه، حيث إن الأنبوب الجديد سيمر عبر روسيا إلى الدول الأوروبية بعكس ما كانت الدول الغربية تسعى إليه من تجنب الأراضي الروسية عند بناء هذا الأنبوب.

وهكذا فإن الأزمة بين روسيا والغرب قائمة، ولم تتوقف عمليات التجسس، ولا الاختلافات السياسية والاقتصادية الكبيرة والصغيرة بين الطرفين، وكما حققت الولايات المتحدة مكاسب استراتيجية كبيرة بانضمام دول أوروبا الشرقية إليها بل وتأييدها أكثر من أوروبا التقليدية، فإن روسيا قد حققت اختراقات ومكاسب جديدة ومهمة، أهمها توظيف النمو الاقتصادي وتطور الموقف الصيني والأميركي اللاتيني، وربما يكون أكثرها أهمية هو الفشل الأميركي في العراق.

وجورجيا اليوم تجعل الأزمة تتصاعد بجدية وحدة، بل وتنذر بحرب باردة أكثر حدة واكثر انقساما وصراعا.