حاتم علي

نادرا ما يترك مخرج تلفزيوني أو سينمائي أثرا عند الناس وبهذا الوضوح والتأثر كما تركه المخرج السوري المميز والمبدع حاتم علي الذي وافته المنية بشكل مفاجئ في القاهرة نهاية العام، ودفن في دمشق مطلع العام الجديد. لست ناقدا سينمائيا بالمعنى الحرفي، ولكنني كما آخرون أتذوق ما يفعله المخرج والكاتب والممثل في الأفلام والمسلسلات، فكان حاتم علي بحق أستاذا في البحث عن التفاصيل في أي عمل يقوم بإخراجه، وكان يتفنن في عرض منتجه بأعلى درجات الاتقان، كان يأخذنا من خلال عدسة كاميرته، وعينه الناقدة إلى مطارح عجز آخرون عنها، وينقل لنا جزيئيات دقيقة لافتة، استطاع أن يدخلنا في تفاصيل أي عمل تلفزيوني، فبتنا نستشعر ونلمس رؤية المخرج الإبداعية، ولعلنا جميعا نستذكر العمل المميز (الفصول الأربعة) في جزئيه، حيث زج بِنَا بكل سلاسة في تفاصيل العمل، فأشعرنا أنه يتحدث عنا عن حياتنا اليومية أحلامنا الإنسانية عن أشجان كل فرد فينا، وينقل ما يدور في بيوتاتنا، فعشنا معه في كل لحظة، فكنا كأننا جزء من العمل، ساعده في ذلك قوة حوار كاتبتين مبدعتين هما ريم حنا ودلع الرحبي. يكفي هذا المبدع إخراجه للملحمة الوطنية التغريبة الفلسطينية التي كتبها الدكتور وليد سيف ونقلها حاتم علي، جسّد لنا من خلال ملحمة التغريبة تفاصيل القضية الفلسطينية منذ العام 1934 وحتى العام 1967 وقت احتلال الضفة الغربية، حيث استطاع بالتعاون مع شريكه وليد سيف نقلنا لصور حقيقية ووضع أمامنا بكل حرفية منعطفات القضية الفلسطينية منذ ثورة 1936 مرورا بالإضراب، وتقلبات الحرب العالمية الثانية واحتلال فلسطين في العام 1948 واللجوء الفلسطيني، ومعاناة اللاجئين في مخيمات اللجوء وغيرها من محطات سياسية واقتصادية وإنسانية واجتماعية وثقافية وثورية. استطاع حاتم علي اللاجئ أصلا من الجولان المحتل والذي عرف المعاناة وقساوة الأوضاع الاجتماعية إبّان إقامته في مخيم اليرموك في دمشق، استطاع أن يقدم القضية الفلسطينية بشكلها السياسي والإنساني والاجتماعي والثوري بعيدا عن تعقيدات التنظيمات ومماحكات هذا التنظيم أو ذاك، نقل لنا بكاميرا قاربت الحقيقة كيف كان يفكر الفلسطيني وقتذاك، كيف انتظر الوعود وتحقيقها، كيف قاوم الشعب الفلسطيني بالفأس والمنجل والخرطوش بطش صهاينة مدججين بالسلاح وجبروت بريطانيا التي مالت عن الحق وانحازت للصهاينة المحتلين على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين. كان مسلسل التغريبة الفلسطينية بمثابة تدوين لهذا الجيل والأجيال القادمة وبمثابة رؤية مصورة لتاريخ قد يطوله التأويل والتدليس والكذب والنفاق، بيد أن المسلسل كان أمينا في نقل الصورة كما هي بشكلها الحقيقي، ونقل واقعي لهذا التاريخ الذي بات البعض يزاود عليه ويختلق أكاذيب حوله، حيث استطاع بناء ذاكرة شعب ونقل مأساته بكل حرفية وإتقان وإنسانية. أخبرنا حاتم علي ووليد سيف وكادر العمل الذين أبدعوا في تقمص شخصياته حقيقةَ ما جرى ونقلوا أحلام العودة التي عبرت عنها المبدعة جوليت عواد عندما تفقدت قبل اللجوء بيتها وأغلقت الباب ووضعت المفتاح بين ثيابها باعتبار أن الخروج مؤقت، وأن القوات العربية قادمة وما هي إلا أيام وتعود لفتح باب البيت الذي أخذت مفتاحه، ولكن وحتى اليوم لم تأتِ القوات العربية وما زال المفتاح في انتظار أن يوضع في مغلاق الباب الذي أقفل قبل 72 عاما. رحل حاتم علي عن دنيانا، ترك لنا أعمالا خالدة كعمر والزير سالم وأحلام كبيرة والعراب وعصي الدمع وربيع قرطبة وملوك الطوائف وصقر قريش، وغيرها من الأعمال الخالدة. رحل حاتم وترك لنا أعمالا خالدة ولكنه اختار الذهاب باكرا، فلروحك يا حاتم السلام ولفكرك الوضاء الاستمرار.اضافة اعلان