حادثة منى والتوظيف السياسي


في حالة الانشطار والتشظي التي نعيشها، لم يكن مفاجئاً أن تختلف قراءتنا للكارثة التي تعرض لها الحجاج في منى، وأودت بحياة المئات. فقد حاول كثيرون، كل حسب انتمائه السياسي والطائفي والديني، تفسير الحادثة بما يخدم مصالحه ومصالح الجهة التي يمثلها. إذ ما إن تم الاعلان عن الحادثة، حتى اشتعل الفضاء، ومن دون تثبت، بالإشاعات والاتهامات المتبادلة؛ الكل يكيل الاتهام للكل، في توظيف صارخ وغير أخلاقي للحادثة.اضافة اعلان
فالبعض سارع إلى اتهام السلطات السعودية بالتقصير، وربما التواطؤ. وذهب البعض في شططه إلى المطالبة بتدويل الأماكن المقدسة. ولم يستطع البعض الآخر، من غير الراضين عن موقف المملكة من القضايا الإقليمية، أن يخفي لغة التشفي والشماتة تجاهها. وعلى الجانب الآخر، ذهب بعض المسكونين باتهام إيران بكل كوارث العالم، وهي غير بريئة من بعضها، إلى اتهامها بالوقوف وراء الحادث.
وذهب فريق ثالث إلى نسبة الحادثة إلى عرق بعينه، بلغة عنصرية مقيتة. أما أولئك الذين لا يؤمنون بالحج ولا بمن فرضه، فوجدوها فرصة مناسبة للنيل من هذا الركن. وبلغ الأمر ببعضهم إلى استحضار مقارنة الحج بمهرجانات تذوق الخمور في أوروبا، أو بتجمعات أتباع طائفة السيخ في الهند، في رسالة مبطنة لا تخفى على أحد.
لقد امتلأ الفضاء بالكثير من الأكاذيب المموهة بالحقائق، والحقائق المبطنة بالكذب، التي حاول أصحابها إلباسها ثوب الصدق، حتى بات الواحد فينا يسمع الشيء وضده في السياق نفسه.
ووسط هذا الكم من الاستقطاب، ضاع صوت العقل والعلم الذي يتعامل مع الكوارث كفرصة لإعادة النظر بسلامة العملية بأكملها، على أسس علمية، ومن خلال خبراء يجمعون المعرفة بأسس السلامة وإدارة الحشود، فضلا عن إلمامهم الدقيق بالمراحل المختلفة التي يمرون فيها.
فإدارة التجمعات الكبيرة والحفاظ على سلامتها، وسلاسة الانتقال من مرحلة إلى أخرى، هو علم يستند إلى دراسة معمقة لطبيعة المراحل المختلفة، وطوبوغرافية المكان. ففي معظم هذه الحوادث، يكون الخلل قد حصل في موضع بعيد جدا عن مكان الحدث، والذي قد يكون نتيجة حتمية لسلسلة من الأخطاء حدثت في مكان وزمان آخرين.
لقد كانت صناعة الطيران سباقة إلى الاستفادة من الدروس المستقاة من الكوارث الجوية، لإعادة النظر والتطوير المستمر لإجراءات السلامة على متن رحلاتها. وتبعها في ذلك العديد من الصناعات التي استفادت من هذه التجربة، لتطوير إجراءات السلامة الخاصة بها.
خلاصة القول: يجب توسيد الأمر لأهله، وعدم زج موضوع سلامة الناس وحياتهم في أتون صراعاتنا السياسية والطائفية. ففي حالات الاستقطاب تدفن الحقيقة، لنصحو على كارثة جديدة نقدم فيها الضحايا قرابين على مذبح صراعاتنا العبثية.