تعيقه كثيرا فكرة الرقابة، فيذهب بكل ما أوتي من ذكاء وإبداع إلى مراوغة الفكرة، محاولا الخروج من عباءة الرقيب، أو الالتفاف عليه، ولكنه يعترف أن للرقيب “حاسته العاشرة”، لذلك يقول: “أجمل ما رُسم هو ما لم يُنشَر”.
ذلك هو صديقي ناصر الجعفري؛ الحقيقي حد الحب، والصموت حد اكتمال البصيرة.
كنا، أصدقاءه، نتابع على شاشة التلفاز معا لحظة حضوره البهيّ على منصة جائزة الصحافة العربية، وصفقنا جميعنا حين دوّت القاعة باسمه، فمثله يستحق الجوائز.
المتواضع الذي يخيل إليك أنه يهمس بالكلام، ويغمض عينيه مرات ومرات وهو يجابهك بابتسامته الدافئة، يتحول إلى كائن آخر عندما يُشرع فرشاته أمام البياض، ويذهب إلى اقتناص لحظة الصدق مع الذات؛ حينها تدوي صرخته الكبرى في وجه القمع والرقيب، محاولا إسدال صفة قريبة من المعنى على ما يمكن أن تكون عليه صورة ذلك المدعو “قمع ورقابة”.
هو المبدع الذي تشكلت أخيلته منذ أول احتلال لعاصمة عربية؛ بيروت في العام 1982، فراح يهجس بما يمكن أن يتبع من عواصم متقهقرة، تنمو على القمع، فلا تجد من يذود عن حياضها إلا المتكسبين الذين سرعان ما يغادرون نحو جهات أكثر أمنا.
هو ناصر الجعفري، الذي حين امتدت أصابعه إلى الريشة والألوان، للمرة الأولى، وهو ما يزال طفلا، لم يجد ما يكمل به نصف وجه العربي المعاصر سوى شقّ الحذاء.. كان ذلك في زمن قديم يعود إلى قرن مضى بهزائمه الكثيرة وأمنياته الميتة، لكنه اليوم لا يجد تكملة للمشهد، فقد غاب، حتى، نصف الوجه، ولم يتبقّ سوى فراغ كبير يمتد من البحر حتى المحيط.
يحزنه كثيرا أننا دخلنا الألفية الثالثة الجديدة بكل ما لدينا من عتاد الرقباء، وسلطة السلطة، وتجبّر القوانين المكتوبة، وتلك التي لا تحتاج إلى كتابة، بل نتوارثها بـ”التلقي” جيلا بعد جيل، ونسلمها رقابنا عن طيب خاطر.. أو عن تسليم بأمر لم نفكر حتى اليوم بإمكانية تغييره.
يحزنه أن “الجلجلة” ما تزال تشهد عمليات الصلب جهارا نهارا، وأن الشهداء لا يعودون إلى بيوتهم في المساء، فتزداد “المسابح” في أيدي أرامل يلهجن بأسماء كانت لشباب يخطون على الأرض آثارهم.
يحزنه أن مغول العصر ما يزالون يرمون بالمخطوطات في دجلة، وأن ابن العلقمي ما انفك هو السيد الذي “تُرجى شفاعته”.
حييٌّ، حتى لتحتار: كيف يمكن أن تستدرجه إلى فخ الكلام، ومحب للصمت والنظر إلى لا مكان محدد، فهو يكون مشغولا بلوحة أخرى بدأت تتشكل في البال؛ ربما على أنقاض ليلة أرق أخرى، أعاد فيها ترتيب مشهده اليومي من غير أن يدع مجالا لدخول الفجاءة.
ذلك هو صديقي ناصر الجعفري.
وفاء
موفق واضح انك صديق وفي وصديقك يستحق الاحترام ايضاَ