حبة الكاجو

عمان- كنتُ أظنّ أن جاري طيّبٌ كزارع القطن ورقيق مثل مصور سينمائي، ومنحته فوق ذلك صفات رومانسية من أفلام الأبيض والأسود، والرّمادي. يدخل إلى بيته الذي يفصله عن بيتي جدار واحد لا يخلو من الفضول، فلا أسمع نكداً، أو صراخاً على الطعام الذي لم يستوِ، أو تذمّراً في البحث عن سروال القيلولة. بل لا أسمع شيئاً! فاستعنتُ بخيالي الذي أراني أنّ الجار دخلَ إلى البيت مدندناً بواحدة من أغنيات "الهوى" الحليميّة، قبّلَ كفّ زوجته الريفيّة التي أخبرته بنبرة "فاتن حمامة" المجروحة، أنّ الأرزّ على وشك الاستواء، فردّ أنّ برؤيتها ذهَبَ نصف الجوع؛ لم يقل ذلك صراحة، وإنّما استعار عينَيْ "عمر الشريف"!اضافة اعلان
ليس جاري فقط هو الطيّبُ الرقيقُ الرومانسيّ الرّمادي، النّاس كلهم كنتُ أظنّهم كائنات خفيفة من سلالات الكناري، فصراخهم أو ما يبدو صراخاً يكون مجرّد حدّة في النقاش، ثمّ أكتشف بعد صفائهم وانصراف إبليس أنّه كان وداً زائداً من سوء الفهم. أما الأصوات التي كنتُ أعتقد أنها في المستوى العاديّ، فكانت أقرب إلى الهمس، والهمس كنتُ أحسبه حوار النفس مع نفسها. صوت المكيف في أعلى درجاته كان مثل تأفف طفل، الميكروويف أيضاً، وسخّان الماء كذلك، ومجفّف الشعر، ماكينة الحلاقة، المعلق الرياضي، بائع الأشياء المستعملة، ضيفا "الاتجاه المعاكس"، الريح في الأخير من شباط، كلها وغيرها أصوات كنتُ أسمعها أو لا أسمعها مثل غليان القهوة!
الحقُّ أني بعد ثلاثين عاماً شككتُ قليلاً في الأمر. أنكرتُ كلّ تلك السنين المهدورة أنّ العلة في أذني اليسرى بعد وفاة أذني اليمنى، وكافحتُ كما المُسنّين لإثبات أنّ سمعي طبيعي وسويّ، حتى أصبت بالتهاب حاد أفقدني كلّ السمع، ثمّ عاد مرة واحدة مثل التيّار الكهربائي. اتجهتُ مذعوراً إلى مركز للسمع، أخفيتُ وجهي كما يفعل رجل مكسور، ذاهب لعلاج العجز الجنسي. استقبلني الفنيُّ بما يبدو أنه صراخ، شارحاً لي الحلول، وخيّرني بين أحجام اخترتُ أصغرها، سمّاعة مثل حبة الكاجو، توضع في الأذن، ثم ينطلق صفير البدء.. وسمعتُ تيّار الهواء، واحكتاك المفاتيح، وأزرار الكيبورد، وضحكتُ مثل فتى عابث على هزيمة المُسنّ المكابر!
الهمس لم يكن همساً، وما كنتُ أعتقد أنّه في المستوى العاديّ كان صراخاً، والصراخُ كان حروباً منزوعة النار. حتى جاري أتذكرونه، ذلك الذي ظننته طيّباً كزارع القطن، ورقيقاً مثل مصور سينمائي، فاجأني حين دخل إلى بيته، انهار الجدار الفضوليّ، وسمعتُ نزاعاً زوجياً صاخباً، مصحوباً بصوت أسنان المنشار على الخشب العنيد، هناك كان "توفيق الدقن" يعنِّفُ "نعيمة الصغير"، وهي تلعن الساعة المشؤومة التي جمعتهما. سمعتُ النميمة بوضوح الفجور، والنقاش الحادّ المنزوع الودّ، والمؤثرات الصوتية الكاذبة التي نجوت ثلاثين عاماً من خدعتها، حتى غليان القهوة ليس خافتاً كما قرأته في الشعر الحرّ. لستُ سعيداً يا أيها المُسنُّ المهزوم، فقد تكررت إصابتي بالصداع، وفقدتُ مكاني في الملكوت، ويوماً ما سأملكُ الجرأة لأنزع حبّة الكاجو من أذني، وأمضغها!