حبيب الزيودي: شهادة في الشاعر والإنسان

خلل في شريان غبي؛ مجرد خلل غبيّ، يأخذ منا حبيب الزيودي، بلا إنذار، بعيدا إلى نهاية الشفق اللازورديّ الغامض. عندها، وعندها فقط، اكتشفنا أن بيننا شاعرا بحجم الحبّ كلّه.اضافة اعلان
منذ إرهاصاته الأولى، ثم إعلانه عن نفسه شاعرا متمرسا ومختلفا في "الشيخ يحلم بالمطر" العام 1986، وما تلا من قصائد، بدواوين "طواف المغني" و"منازل أهلي"، اختطّ حبيب لنفسه طريقا شعرية امتاز بها عن غيره، ونهل فيها صوره الشعرية من بيئات ثلاث تقلب بينها طوال حياته؛ البدوية، والفلاحية، ثمّ المدنية.
على سبيل الشكل، لم يترك حبيب الشكل الشعري القديم لصالح حداثة نخرت في القصيدة العربية حتى أفقدتها روحها، بل ظل تجريبه مترافقا مع حس موسيقي عالٍ.
قصيدته العمودية انحاز فيها إلى القالب العمودي فقط، ولكنه استطاع أن يحدثها بالمفردة والصورة. أما في قصيدة التفعيلة، فقد كان حبيب أكثر إثراء وتميّزا، وذلك للحرية الكبيرة التي تتيحها.
دراسته للأدب العربي في الجامعة الأردنية، وعمله في قسم البرامج الثقافية في الإذاعة، وفي وزارة الثقافة وفي التلفزيون، ثم في صحيفة "الرأي" وبيت الشعر الذي أسسه وعمل مديرا له، ثم في الجامعة الأردنية، جميعها شكّلت تنوعا مهما أثرى تجربته الحياتية، ما انعكس على تجربته الإبداعية بالتالي.
غير أن أهم ما منح قصيدته زخما إضافيا، وأضفى عليها خصوصية مميزة، هو نهله من البيئات الأردنية المختلفة. فكبدوي، ظهرت الثقافة البدوية واضحة بجلاء في قصيدة الزيودي، وذلك من خلال مئات المفردات التي لا يخطئها القارئ. وكذلك من خلال مخزون حكائي وتراثي هائل، كان الشاعر ينهل منه ليطوّعه شعرا خالصا.
واختلطت ثقافته البدوية بفلاحية محدثة، تأتت له من خلال بيئته التي ترعرع فيها بهاشمية الزرقاء والعالوك، وهكذا منحته هذه البيئة خصوصية مفرداتها وثقافتها وموروثها.
أما البيئة الثالثة، فهي المدينة عمان، حيث جاءها الزيودي طالبا للعلم في الجامعة الأردنية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ثمّ "تورطه" فيها بالعمل في بيئات مختلفة، وصولا إلى الإقامة والسكن فيها مع عائلته. وبذلك اختبر الشاعر تحوّلات المدينة بجميع جوانبها؛ امتدادها الجغرافي إلى آفاق جديدة، وتغيّر ديمغرافيتها بهجرات متتالية، وصولا إلى تحولها إلى نمط معيشي سريع، ربما لم يستطع الشاعر التماشي معه، وهو ابن ثقافة رتيبة بطيئة التحوّل.
ولكنّ الأهم من الأثر البالغ لتلك البيئات الثلاث، هو الموهبة المتفجرة، والفطرية الطبيعية التي يستند إليها حبيب الزيودي في الكتابة؛ فهو ولد شاعرا، واستطاع أن يطوّع المفردات، على الدوام، لتغدو موسيقا يتغنّى بها الناس. ولعلّ ذلك واضح من خلال أكثر من 40 نصا غنائيا شدى بها مطربون كبار، من أمثال ميادة الحناوي وعبدالله الرويشد وعبادي الجوهر وعلي عبدالستار وأصالة نصري وأنغام محمد علي وشيرين وجدي ورجاء بلمليح وذكرى وصوفيا صادق ونور مهنا وغادة رجب، وغيرهم. وقريبا ستكون أغنيته "ما لي غوا بعمان"، من ألحان مالك ماضي، وغناء كارولين ماضي.
على المستوى الشخصي، يمكن لحبيب الزيودي أن يصنّف على أنه إنسان نزق ودائم القلق، يبتعد عن الديبلوماسية لمصلحة مصارحة ومكاشفة سليطة في كثير من الأحيان، لكنه، بالتأكيد، ينحو باتجاه طيبة طبيعية، لا يستغني فيها عن فراسة البدويّ وتحفّز عقله.
في دخيلته، شعر حبيب على الدوام بأنه الابن الشرعي لمصطفى وهبي التل (عرار)، بكل ما فيه من التناقضات والشفافية والصدامية، والأهم بكل ما حمله في جوانيّته من حب للأردن والأردنيين. كما شعر أنه امتداد طبيعي لتيسير السبول، الشاعر الذي انطفأ شابّا، ولم يستطع إكمال مشروعه الإبداعي.
رغم أن رسائل جامعية عديدة نوقشت عن تجربته الشعرية، إلا أن دراسة نقدية مستفيضة لم تصدر حتى اليوم حول خصوصية الزيودي الشعرية، وربما يشكّل رحيله دعوة إلى النقاد للانتباه إلى تجربة هذا الشاعر.
هذه مجرد أفكار حول تجربة الصديق الراحل حبيب الزيودي؛ شاعرا وإنسانا. وكل ما نتمناه أن تخضع كتاباته لدراسات مستفيضة تحفظها من النسيان والإهمال.