حتى لا يبقى ضحايا الانتحار أرقاما صمّاء

لا يكاد يمر يوم من دون ان تنشر وسائل الإعلام والصحف خبرا حول حادثة انتحار، او محاولة انتحار، في هذه المنطقة او تلك من محافظات المملكة، كان آخرها امس بنشر خبر انتحار عشريني في إحدى قرى إربد شنقا.اضافة اعلان
واللافت، أن أغلب أخبار حالات الانتحار التي تقع بصورة شبه يومية، تنشر في صحفنا، وللأسف من قبلنا كإعلاميين، بصورة مقتضبة، حيث يتم في الغالب الاكتفاء ببيان الأمن العام أو الطب الشرعي المقتضب، والذي لا يغوص في تفاصيل قضية المنتحر، التي تعكس في الغالب مأساة إنسانية، ولها أبعاد عديدة، تستحق التوقف والدراسة، ليس لاستعادة حياة هذا المنتحر الضحية، بل لمساعدة غيره من حالات شبيهة، ولوقف هذا النزيف المرير من الأرواح.
أتحدث هنا أساسا، من باب النقد الذاتي للإعلام ولعملنا كصحفيين، حيث يبدو التقصير واضحا في تعاطي الصحافة بشكل عام مع هذه القضايا، ربما باستثناءات قليلة، ترتبط أحيانا بشهرة الضحية المنتحرة، كما في قضية الشقيقتين الراحلتين ثريا وجمانة السلطي قبل أشهر، وما رافقها من ملابسات وتحقيقات وتفاعل من قبل الرأي العام الأردني، وأحيانا ترتبط بشغف بعض الصحفيين، رغم قلتهم، بالتحقيق وسبر أغوار القضايا المسكوت عنها.
تقديرات الأمن العام تتحدث عن معدل عام للانتحار في السنوات القليلة الأخيرة بحدود مائة حالة سنويا تقريبا، فيما يقدر عدد حالات محاولات الانتحار بعدة أضعاف هذا الرقم، وهي أرقام تعكس ارتفاعا ملحوظا لمعدل الانتحار ومحاولاته في السنوات القليلة الماضية عنها في العقدين الماضيين.
هذه الأرقام والمعدلات، وحتى الأخبار المقتضبة عن حالات الانتحار شبه اليومية، تبقى صمّاء، وقاصرة عن الإحاطة بهذه القضية الشائكة إنسانيا ومجتمعيا وقانونيا. وثمة ملاحظة أخرى أيضا في هذا السياق، وهي أن الدراسات العلمية لحالات الانتحار وتحليلها وقراءتها علميا واجتماعيا تبقى شحيحة جدا، حيث تكتفي المؤسسات الرسمية والجهات الأكاديمية والجامعية، والصحافة أيضا، بالتقارير السنوية للأمن العام او الطب الشرعي أو القضاء، والتي تقتصر، في الغالب، على تقديم مؤشرات سطحية لحالات الانتحار، من حيث الأعداد والمستويات العلمية والجنس والشرائح العمرية، دون الغوص في دراسة ظروف وأسباب حالات الانتحار.
للأسف الشديد أن الإعلام لا يمارس دوره الحقيقي والمطلوب في تغطية مثل هذه القضايا، ويكتفي في الغالب بالقشور، والأخبار المقتضبة، وقد لا تستوقف الصحف أحيانا حتى أعمار المنتحرين، عندما يكونون أطفالا أو مراهقين صغارا، فيما المفترض بنا كصحفيين وإعلاميين في مثل هذه الحوادث إجراء تحقيقات استقصائية وتقديم دراسة حالة للضحية!
أغلب المتابعات الموسعة في الصحافة لقضية الانتحار ومحاولاته تركز على استقاء آراء اختصاصيين نفسيين واجتماعيين ورجال دين، ومصادر أمنية رسمية، يتناولون القضية بعموميات من ناحية الأسباب والظروف، بينما تغيب في الغالب، وللأسف، الضحية، التي تتحول لمجرد رقم وجزء من النسبة العامة!
الأمراض النفسية والظروف الاقتصادية، والاجتماعية من تفكك أسري ومشاكل شخصية، هي الأسباب العامة لحالات الانتحار، التي تساق دائما كتفسيرات عامة لهذه الحوادث والمآسي. المشكلة أنها تفسيرات لا تزيد مثل هذه القضايا إلا تعمية وتسطيحا، ما يسمح بتواصل مسلسل تسجيل حالات الانتحار بشكل شبه يومي، وسقوط المزيد من الضحايا، الذين نصر كإعلام ومجتمع ومؤسسات على تحويلهم سريعا إلى مجرد أرقام ونسب تسوّد بها صفحات التقارير الجنائية السنوية.
هل يمكن للإعلام والجامعات والأكاديميين والباحثين الاجتماعيين والنفسيين والجنائيين تقديم ما هو أفضل في التعاطي مع قضايا الانتحار التي تستنزف أرواحا وضحايا يوميا؟! لا شك أن ذلك ممكن بل ومطلوب بإلحاح، والبداية، أعتقد، تكون بأنسنة تغطياتنا الصحفية ودراساتنا العلمية لهؤلاء الضحايا، والكفّ عن اعتبارهم مجرد أرقام ونسب صمّاء في ملفات جنائية مركونة بزوايا رطبة في مستودعات الأمن العام ومكاتب الباحثين!