حرب الإرهاب على مفهوم المواطنة

مع أن استهداف الكنائس بات منهجاً معتمداً على رؤوس الأشهاد من جانب الإرهابيين المتمسحين بالإسلام، ممن لا يتورعون عن التستر على رغباتهم في استئصال شأفة المسيحيين من بلادنا، حيث تجلت هذه الرغبات بأوضح تعبيراتها منذ تفكيك الدولة الوطنية الحديثة في العراق، فإن ما شهدته الإسكندرية في الدقائق الأولى من هذا العام كان حدثاً إرهابياً أشد وقعاً وأبلغ دلالة مما سبقه من وقائع عراقية ومشرقية مماثلة.

اضافة اعلان

ذلك أنه إذا كانت استباحة العراق وتدمير مقوماته السيادية، قد فتحا الباب واسعاً أمام الظاهرة الإرهابية التي تلطت بالمقاومة ضد الاحتلال وشوهتها أحياناً، فإن محاولة إعادة تسكين هذه الظاهرة في بلد كبير، مستقر ومركزي مثل مصر، يعد تطوراً له ما بعده من مفاعيل سلبية لا حصر لها، نظراً لمكانة مصر الفريدة في العالم العربي، ناهيك عن دورها الحضاري الوازن في المحيط المجاور، كبلد ملهم وذي تأثير تنويري مباشر في مجاله الحيوي.

لهذا، فقد كان دوي العمل الإرهابي في الإسكندرية أوسع مدى من دائرة الموت التي أحدثها في محيط كنيسة القديسين، وكانت رسالته الدموية الكريهة أشد بلاغة من كل ما تضمنته الرسائل الإرهابية السابقة، سواء أكانت لجهة الغايات التي لم تعد مبيتة على أي حال، أو كانت لجهة اختيار الرقعة الجغرافية المصابة بعدوى الاحتقان والتحريض والتكفير، وغير ذلك من المشاهد الناجمة عن استشراء التطرف الديني، والانسداد السياسي والتعثر الاقتصادي.

ومع أن لكل عامل من هذه العوامل سهماً وافراً في إنتاج هذه الحالة المصرية الملتهبة بأمراض تبدو مستعصية في المدى المنظور، فإننا نود التوقف عند العامل الذي قد يكون أكثر تأثيراً من غيره في تفريخ التطرف وصناعة الإرهاب المقيت، وتظهيره على هذا النحو المروع، ونعني به ثقافة التعصب الديني المفضي إلى غياهب الإقصاء والانغلاق، ودروب الردة التي كانت تواصل بدأب احتلال مزيد من الفضاء الثقافي، وقضم مزيد من هوامش الأرضية الاجتماعية المواتية، على حساب ثقافة الانفتاح والتنوع والتسامح التي ميزت الواقع المصري وأثرته تاريخياً.

ولعل نظرة سريعة إلى الوراء قليلاً، واستعادة عدد من الوقائع المتفرقة، سواء على صعيد فتاوى التحريم والتحليل، أو على صعيد المحاولات الدؤوبة لأسلمة صحيفة الأحوال الشخصية، وشيوع عدد من الأحكام القضائية المستبدة ضد المثقفين، حتى لا نقول العودة بالمجتمع المصري إلى العصور الوسطى، فضلاً عن فرض مفاهيم رجعية تخص مضمون المواطنة ومكانة المرأة والمساواة والتعددية، بما في ذلك إعادة تعريف مفهوم الدولة، نقول إن هذه الوقائع الظلامية المخزية شكلت في مجموعها، الحاضنة الذهنية المواتية لاستزراع الظاهرة الإرهابية بين ظهرانينا.

وأحسب أن جماعات الإسلام الحركي، داخل مصر وخارجها، تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية عن استقواء الإرهاب في بلادنا العربية والإسلامية، بعد أن غضت البصر طويلاً، وتسامحت كثيراً، إن لم نقل إنها تفهمت الكثير من الأفعال الإرهابية على اختلاف أماكنها ودرجاتها، حيث بدت مواقف وبيانات هذه الجماعات، في المرات القليلة التي استنكرت فيها الحوادث الإرهابية، وكأنها تصدر عن طرف اللسان دفعاً للحرج والملامة، تماماً على نحو نص التحذيرات المثبتة على علب السجائر من أخطار التدخين على الصحة.

قد يذهب بعض المحللين بعيداً في تعليل واقعة سيدي بشر في الإسكندرية، وردها إلى عوامل تخص الأوضاع السياسية وتتعلق بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وتعليقها على شماعات الفساد والتراجع والاستبداد، إلا أن أي تشخيص لهذه الواقعة الإرهابية المدانة على أوسع نطاق، سوف يظل ناقصاً لا يفي بكامل الحقيقة إن تم عزله عن استفحال مظاهر الردة والأحادية والتعصب الديني الآخذة في الانتشار والتغلغل عبر أحكام القضاء، وشاشات التأويل والشريعة المتخصصة، ومنابر الصلاة، وأدبيات الأحزاب الدينية غير المتصالحة بعد مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، والمعادية في الوقت ذاته لمفهوم المواطنة المجردة عن اعتبارات الأصول والمنابت والأديان والعقائد المتساوية في الحقوق والواجبات تحت سقف القانون والنظام العام.