حرب غزة الثالثة.. هدفان تحت الطاولة

تلحفت كل الحروب في التاريخ الحديث بمبررات أخلاقية، وجرت كل واحدة منها تحت زعم الحق في الدفاع عن النفس، وحرص كل طرف على الظهور بمظهر المعتدى عليه، وأنه كان مكرهاً على خوض غمار القتال ذوداً عن سيادته وسلامة أراضيه.اضافة اعلان
وليست هناك حرب بلا أهداف معلنة وأخرى مضمرة؛ لكن يجري في العادة التستر على الغايات، ويتم في الوقت ذاته إشهار الحد الأدنى من الأهداف القابلة للتحقق، مخافة أن تأتي النتائج المتوخاة أقل مما قيل على رؤوس الأشهاد، وتجنباً لما قد يلي من مساءلات، قد تخصم من رصيد القادة والمسؤولين، إذا كانت الحصيلة النهائية غير متساوقة مع الوعود.
ينطبق هذا التشخيص الموضوعي على الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة بالتمام والكمال. فقد حرصت إسرائيل، وهي تشن حربها الثالثة في غضون سبع سنوات، على استدعاء المبررات الأخلاقية الزائفة، وجادلت بأنها تدافع عن نفسها، وزعمت أنها هي الطرف المعتدى عليه؛ فيما خاضت المقاومة معركتها البطولية تحت ذات المبادئ والمبررات الوجيهة.
أما فيما يتعلق بالجانب الأهم لهذه الحرب، ونعني به الأهداف المخططة مسبقاً والغايات المنشودة سراً، فإننا سنركز الاهتمام على أهداف المقاومة، تاركين ما يتصل بأهداف إسرائيل جانباً، كي نتمكن من الإدلاء بدلو صغير في النقاش الصاخب حول نتائج هذه الحرب، ووضع معايير موضوعية، يمكن على هديها إجراء القياسات، والتوصل إلى شيء من الخلاصات.
أحسب أن هذه الحرب التي استعدت لها المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، وحققت فيها مفاجآت تكتيكية كبيرة، ألا وهي الأنفاق، وأبلت فيها أحسن البلاء، كانت حرباً اضطرارية لا مفر منها، وذلك لكسر الحصار الظالم المستمر منذ نحو ثماني سنوات، ووقف حالة الموت البطيء لنحو 1.8 مليون إنسان، خصوصاً بعد أن تم ردم الأنفاق مع سيناء، وتوقف تدفق حقائب الأموال من الحلفاء السابقين، ناهيك عن تبرعات الداعمين والمريدين.
إذن، كان الهدف المتمثل في إنهاء الحصار هو أجلّ أهداف المقاومة، لاسيما من جانب "حماس". وكان ذلك هدفاً مشروعاً بكل المعايير. إلا أنه كان هناك إلى جانبه هدفان مضمران، يضللان النقاش الدائر حول من هو المنتصر حتى الآن: أولهما، رد الاعتبار للمشروع الإخواني، بعد كل ما حدث له في مصر خصوصاً والعالم العربي عموماً. وثانيهما، إحراج السلطة الوطنية وتبهيت خيارها التفاوضي، لصالح خيار المقاومة الناجع، تمهيداً لعملية الإحلال والاستبدال في مستقبل ما.
والحق أن الأداء السياسي لـ"حماس" خلال المعارك وبعدها، كان أدنى بكثير من مستوى أدائها القتالي المثير للإعجاب. فقد رسمت لنفسها أهدافاً كبيرة تفوق قدراتها الذاتية على الإنجاز، مثل الميناء والمطار، وقبلت الورقة المصرية التي رفضتها في البدايات من دون إبداء الأسباب. وهو ما أدى إلى كل هذه الدماء وهذا الدمار. ناهيك عن سلوك الحركة الداخلي المشين إزاء شركائها، فضلاً عن حفلات الإعدام الجماعي للعملاء بلا محاكمات، وسحلهم أمام الكاميرات.
مما يجدر ذكره أن قطاع غزة محاصر سياسياً ومالياً، وليس تموينياً أو دوائياً. فحتى خلال فترة العدوان، كانت تدخل نحو 200 شاحنة يومياً عبر معبر كرم أبو سالم، فيما بقي معبر "إيريتز" المخصص لرجال الأعمال والصحفيين وموظفي الأمم المتحدة وغيرهم، مفتوحاً طوال الوقت. وإذا شئنا الدقة أكثر، فإن الحصار السياسي في جوهره يشمل "حماس" أساسا، كما أن الحصار المالي في حقيقته هو حصار مصرفي يمنع نقل الحوالات عبر النظام البنكي، حتى وإن توفرت الأموال.
وعليه، فإن "حماس" حين تطالب برفع الحصار وفتح المعابر، فهي لا تقصد في واقع الأمر المعابر الستة مع إسرائيل (تم تدمير أربعة منها قبل سنوات)، وإنما كانت تقصد معبر رفح الذي أخرجه المصريون من دائرة المفاوضات سلفاً، وعلقوا إعادة فتحه على شرط عودة أمن "السلطة الوطنية" على المعبر حصراً. أما إنهاء الحصار المصرفي، فهو أكبر من "حماس" و"السلطة" وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة معاً، إذ تمتلك الولايات المتحدة وحدها المفتاح المودع لدى إسرائيل.
وهكذا، فإن ما بعد هذه الحرب المكلفة لن يكون، مع الأسف، أفضل مما كان قبلها.