رأي في حياتنا

حساب من خمس خانات

أخرجُ من البيت المستأجر بـ65 دينارا إلى الشارع، أمشي كثيرا حتى أصله، متجاهلا كلَّ تنبيهات سائقي “التاكسي” بأنهم فارغون وبإمكانهم “تحميلي”، لكنني ألتفتُ بنظرة مكسورة إليهم، فيُواصلون المسيرَ حين يدركون أنَّ جيبي خاوية.
أصلُ موقفَ الباص مُبَكِّرا (لأنني في طريقي الصباحيِّ دائما أصادفُ الشحَّادة وابنتها) أنقدُ المحصِّلَ خمسين قرشا، وأظلُّ متيقِّظا حركة السيولة في كفيه المتسختيْن، فإنْ جرى صوتُ المعادن الملوَّنة، طالبته بـ”عيْن مفتوحة” بالباقي وقدره اثنان وأربعون قرشا ونصف!
في موقف الحافلات الكبيرة، أذهبُ مباشرةً إلى مُصَلِّح الأحذية، ليدقَّ المسمارَ الأخير في الحيِّز المتبقي من كعب حذائي الذي مرَّ عليه سبعة أعياد، وعام ثامن لم يبلغ الرأس بعد!
وأمشي بالحذاء المُرتَّق في شوارع البلد بانتظار موعد مع فتاة يسارية المزاج السياسي، لكنه لا يكتملُ، لسبب لا يتضحُ حينها إلا عندما أذهبُ إلى العمل وأحادثها من الهاتف المجَّاني، وأكتشف أنها كانت بلا رصيد يُمَكِّنُها من الاعتذار..؛ ولو كان لديها ستذهب الرسالة الهاتفية هدرا.. لأنَّ رقمي مفصول!
أنزلُ إلى “الصرَّاف الآلي” (فاليوم الثلاثون عيدٌ صغير من ثلاثة أيام بلياليها) أنتظرُ بفارغ الصبر قيمة الرقم من ثلاث خانات؛ لا يطولُ انتظاري فالرقمُ ثابت كالمعتاد 168 دينارا، والحسرة ذاتها فلو أستطيعُ سَحْبَ الثلاثة دنانير المتبقية!
ينتهي النهارُ ثقيلا كما مشيُ “باص المؤسسة” الذي أستقله في إيابي، على خط الفقر، إلى المنزل. يتوقفُ كثيرا بانتظار الركاب المُتْعَبين، وعلى إشارة حمراء يكونُ الدمع قريبا من عيني لما أشاهدُ شاباً عشرينياً يركبُ سيارة “البطة”، وبجانبه فتاة من سلالة البط..؛ أكظمُ نبضَ قلبي، فلا مجرى للدماء في الشرايين الضيِّقة!
هذا “زمان”، لما “كنتُ فقيرا”، وشبيهاً لجموع الكومبارس البائسة التي تظهرُ في أفلام المخرج “عاطف الطيب” المنحازة للطبقة الوسطى؛ لكنني اليوم أفْضلُ حالا، أقودُ سيارة كوريَّة المنشأ تنتمي إلى العام 1996، وأخرجُ من البيت المستأجر بـ200 دينار، متكاسلا في العاشرة صباحا، (تكونُ الشحَّادةُ مرهقة بحمل ابنتها في “بؤس مفتعل” عند الإشارة)، أشدُّ بحذائي اللامع الذي اشتريته لعيد لم يأت على “دوَّاسة” البنزين، وأترُكُ ورائي “باص المؤسسة” المتخم بـ”الكومبارس”، عابسين في جلوسهم، وأشد عبوساً في وقوفهم!
لم أعُد فقيرا، أنتظرُ نهاية الشهر (فالثلاثون منه عيدٌ كبير من خمسة أيام بلياليها) وكشفُ راتبي المُخْتَصَر من أربع خانات، والرقم ليس ثابتا وقابلا للارتفاع؛ بل إنه يفاجئني من شهر إلى آخر، فأصفنُ أمام “الصرَّاف الآلي” مبتهجاً حين يصِلُ الرقم إلى خمس خانات!
الآن فقط يمكنني الذهابُ إلى موعد مع فتاة يسارية المزاج العاطفي. بالتأكيد سيكتمِلُ في مقهى صاخب بضاحية غربية في عمَّان، وسيكونُ يسيرا عليَّ الوصول إلى المكان الغريب؛ فهذا يقتضي مكالمات هاتفية متعددة على الطريق؛ ولن يخذلني الرصيدُ فهو مفتوح على فاتورة بيضاء!
لستُ فقيرا، فما عادت تقنعني السيَّارةُ الكوريَّةُ الخفيفة.. سأستبدلها بألمانية فارهة، بالتزامن مع النوبات الهستيرية لارتفاع أسعار المحروقات، والتخمة غير العفيَّة للتضخم الاقتصاديِّ. سأصيرُ صديقا ودودا للبنك لما أسكنُ في بيتٍ قسطه نصف السنوي من ثلاث خانات، ولديَّ ثلاثة قروض حميدة، وواحد خبيث، جعلت من كشف حسابي طويلا، كشرح أجنبي مُعقد مرفق بعلبة دواء صغيرة!
..أريدُ نسيانَ أني كنتُ فقيرا؛ لكنَّ “باص المؤسسة” يصرُّ على الاصطفاف قربي، وواحدٌ يافعٌ من الكومبارس العابسين في جلوسهم، ينظرُ إليَّ بحقد طبقي. تصيرُ الإشارة خضراء ونذهَبُ كل في اتجاه، عاما أو عامين في عُمْر الفقراء القصير!

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock