حقيقة سياسات صندوق النقد الدولي

فهمي الكتوت

لم تستهدف سياسات صندوق النقد الدولي تصحيح الاختلالات المالية في موازين المدفوعات بقدر ما تستهدف فرض حزمة كاملة من الإجراءات المالية والنقدية والاقتصادية التي تعبر عن رؤية المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية والعولمة الرأسمالية، واهمها: تحرير أسواق المال والتجارة، وازاله الحواجز لانسياب السلع والتدفقات النقدية، وتقليص الخدمات الحكومية، ووقف الدعم، وتطبيق سياسة التخاصية لتوسيع السوق الرأسمالي وتأمين فرص أرحب للاحتكارات الرأسمالية.اضافة اعلان
وكان للأردن ولبنان ومصر وغيرهما من البلدان العربية تجربة مريرة في هذا المجال، فقد أسهمت توصيات واملاءات صندوق النقد الدولي في تعميق الازمات المالية والاقتصادية. وحتى النتائج البائسة التي حققتها بعض "البرامج النيوليبرالية" بتخفيض متواضع في موازين المدفوعات فهي مؤقتة لا تحقق تنمية مستدامة، وتأتي على حساب العمال والشرائح الوسطى في المجتمع، كونها ناجمة عن فرض الضرائب والرسوم الجائرة، خصوصا الضريبة العامة على المبيعات والضريبة الخاصة وغيره من الضرائب غير المباشرة، التي يتحمل عبئها الفقراء. فقد لجأت الحكومات الى تقليص الانفاق على الخدمات العامة وخفض عائدات الطبقة العاملة من الإنتاج باسم "التصحيح الاقتصادي" والتي تعتبر السياسة المالية والضريبية اهم أدواتها، ما أحدث تبدلات ملموسة في التركيبة الاجتماعية باتساع طبقة الفقراء واضمحلال الطبقة الوسطى، وتركيز الثروة بين ايدي الطبقة الطفيلية، اما نتائج برامج الصندوق فقد اغرقت البلدان العربية بالأزمات.
فعلى سبيل المثال مضى على خضوع الاقتصاد الاردني لوصفات الصندوق نحو ثلاثة عقود فمنذ العام 1989 وبعد وانهيار سعر صرف الدينار امام العملات الاجنبية، نفذ الأردن 6 برامج خلال الفترة 1989-2004، لم تفضِ هذه البرامج لنتائج إيجابية، بل أوصلت الاقتصاد الأردني الى حافة الهاوية، وهو في وضع لا يقل سوءا عما كان عليه العام 1989؛ فنحو ثلث نفقات الدولة يأتي من الخارج على شكل هبات وقروض، وقفزت المديونية الى اربعة اضعاف ما كانت عليه العام  89 ، وبنسبة لا تقل عن  96 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتشكل فوائد المديونية نحو13 % من النفقات الجارية،  وهي تلاحق الفقراء على خبز أطفالهم الذي يعتبر قوتهم اليومي.
وتقف عاجزة عن تنظيم سوق العمل الذي يعاني من الفوضى في ظل غياب البرامج والخطط للمواءمة بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل، وتوفير فرص عمل للعمال الأردنيين بعد ما وصلت نسبة البطالة الى 18 % وارتفعت نسبتها بين الشباب الى 33.7 % في الوقت الذي أغرق سوق العمل بأكثر من مليون عامل وافد.
في لبنان، يتوقع صندوق النقد الدولي بقاء النمو الاقتصادي ضعيفا في العام الحالي 2017، والاختلالات الخارجية ما تزال واسعة للغاية. ويعتبر العجز الكبير في الموازنة مصدرا للمخاطر الحقيقية، الذي افضى إلى بلوغ الدين العام نحو 148 % من إجمالي الناتج المحلي في العام 2016. وسوف تزداد النفقات العامة. وقد أقر مجلس النواب تدابير لزيادة الإيرادات مصممة لموازنة تمتص زيادة رواتب الموظفين التي أقرتها الحكومة، وقد علقت بسبب المعارضة الشديدة من قبل العمال اللبنانيين، الذين نظموا سلسلة من المسيرات والاعتصامات احتجاجا على السياسات الضريبية.
اما الوضع في مصر فليس أفضل حالا؛ فهي تعاني من خضوع لإملاءات وشروط صندوق النقد الدولي للحصول على مزيد من القروض بعد تدهور الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق، فقد انهارت القيمة الشرائية للجنيه المصري، وتآكلت الأجور وارتفعت معدلات التضخم. وقد طالب الاقتصادي المعروف الدكتور أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة الأهرام، بوقفة حاسمة لتغيير السياسات الاقتصادية، لافتا إلى أن المؤشرات الرئيسية تشير بشكل قاطع إلى تدهور الأداء بصورة تعبر عن مستوى كفاءة السياسات الاقتصادية الكلية والمالية والنقدية. وتصل نسبة البطالة في مصر بين الشباب نحو 39 %.
جاءت اعترافات صندوق النقد الدولي الأخيرة بأن السياسات التي اتبعت في هذه البلدان تسببت بتفاقم عدم المساواة في الدخول، محذرة بضرورة اتباع سياسات مالية لعلاج تلك المشكلة، بالتوسع في ضرائب الدخل التصاعدية والإنفاق على التعليم والصحة! تصريحات إدارة الصندوق هذه تعري السياسات الاقتصادية العربية وتبعيتها المفرطة للإمبريالية، وتؤكد من جديد تخلي الامبريالية عن حلفائها بعد اغراقهم بأزمات كارثية. فقد طالب تقرير الصندوق بزيادة معدلات الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة!! بعدما كان محرما طرح مثل هذه السياسات، وقد أعلن مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور أنه يجب اعتماد الإجراءات الضريبية درجة من التصاعدية، وأن يتم تخفيف العبء على الشرائح الاجتماعية الأقل قدرة والشرائح الأكثر فقرا، من خلال عدم المس بحاجاتها الأساسية ومن خلال عدم زيادة العبء الضريبي عليها، خصوصا ما يتعلق بالرسوم التي تمس السلع الاساسية كالخبز وغيره من السلع! التصريحات والمواقف الجديدة للصندوق لا تعبر عن صحوة ضمير، او تغيير جوهري في سياسات الصندوق، بقدر الشعور العام بحجم الاخطار السياسية التي أتبعها الصندوق تجاه البلدان النامية والتي أحدثت نتائج كارثية تهدد بانفجارات شعبية.